قبل عقد من السنوات، فتحت أوروبا أبوابها الواسعة للمهاجرين، وكان القسم الأكبر من السوريين، كانت كارثتهم تتصاعد بفعل الحرب في سوريا والصراع عليها، وكان إلى جانبهم مهاجرون من دول آسيوية وأخرى أفريقية، اجتازوا بوابات الهجرة الأوروبية، حيث رحبت بهم دول مهمة فيها مثل ألمانيا والسويد، وقبلت الدول الأخرى بهم أو سكتت على مضض.
أصابت إيطاليا نوبة سخاء مفاجئة رغم أنها لا تزال تعاني ركودا اقتصاديا طال أمده. ذلك أن مبلغ الـ700 مليون يورو الذي أعلنت رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني تخصيصه للاستثمار في قطاعي الصحة والخدمات في تونس لا تفسير له، فالمعلومات منعدمة حول مصدره (إن وجد فعلا)، ناهيك عن وجوه صرفه. ولا داعي لاستياء الأقوام الفيسبوكيين من "الاكتشاف" الصادم بأن ميلوني لا يهمها مصير تونس (التي زارتها الثلاثاء وتعتزم العودة إليها غدا الأحد مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فندرلاين)، ولا تكترث لحال شعبها وشبابها أدنى اكتراث، وإنما كل همها أن تفرض آلية كفيلة بوقف الهجرة الأفريقية من السواحل التونسية. فتلك هي القضية الوحيدة، إيطاليّا وأوروبيّا، ولا قضية سواها. ولن يفيد التمادي في لوم الآخرين وتحميلهم مسؤولية عجزنا وانفراط أمرنا؛ إذ الوضع السوي، بل العادي، هو أن يوفر كل بلد فرص الحياة الكريمة لأبنائه؛ أما وقد صارت معظم بلدان الجنوب طاردة لأبنائها، قائمة، بعطالتها المزمنة، سدّا منيعا بينهم وبين أي مستقبل ذي معنى، فإن هذا يحرمها من الحق في لغو الكلام المعتاد، أي انتقاد "عنصرية" بلدان الشمال التي لم تعد شعوبها تطيق مزيدا من المهاجرين (ويكفي التذكّر أن علة البركسيت، بداية ونهاية، هي أن بريطانيا لم تعد تطيق مزيدا من مهاجري أوروبا الشرقية البيض الشقر، فما بالك بسواهم!). وقد مضى زمن كانت فيه هذه البلدان، وخصوصا إيطاليا وفرنسا، هي التي تصدّر أبناءها ومشكلاتها الاقتصادية إلينا، سواء عبر الاحتلال العسكري أم الهجرة المكثفة دون استئذان: أي الهجرة الاقتصادية الرامية إلى العثور على فرص معيشة أفضل. ورغم أن هذه حقيقة من حقائق التاريخ القريب، بل المعاصر، فإنه لم يعد لها مكان في الذاكرة لا عندهم ولا عندنا.
لما تطرقنا الأسبوع الماضي إلى ظاهرة انتشار ذهنية ما بعد الحقيقة، التي تقوم على إنكار الوقائع وتصديق الأباطيل، ذكرنا أن هذه الذهنية صارت الموجّه الأول لخط التحرير في مؤسسة إعلامية كبرى مثل شبكة فوكس نيوز، وأن الشبكة صارت لهذا السبب تمثل خطرا دائما على نزاهة الإعلام وتوازنات الديمقراطية. وتوقعنا أن جلسات المحاكمة لنظر دعوى القذف التي رفعتها شركة دومنيون لأنظمة الاقتراع على فوكس ستجلو هذه الحقيقة أكثر طيلة الأسابيع الستة القادمة. ولكن الذي حدث في الأثناء هو أن فوكس جنحت منذ الجلسة الأولى، الثلاثاء، إلى تسوية رضيت بموجبها أن تدفع أكثر من 787 مليون دولار (!) لدومنيون. لماذا؟ حتى تتجنب فضيحة نشر غسيلها الوسخ على مرأى من العالمين.
الظاهر أن المقروء في بلاد المشرق من كتابات الأستاذ البشير بن سلامة، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى آخر الشهر الماضي، يكاد ينحصر في إنتاجه الروائي، وخصوصا رباعية "العابرون" التي تسرد تاريخا روائيا لتونس المعاصرة على مدى قرن كامل. على أن له كتابات هامة في النقد الأدبي والفكر الحضاري بقي ينشرها على مدى ثلاثين سنة في مجلة "الفكر" التي كان رئيس تحريرها، كما كتب بعد ذلك في مجلات مثل "العربي" الكويتية و"الآداب" البيروتية. هذا إضافة إلى ترجمة كتابين، مع محمد مزالي، للمؤرخ شارل أندري جوليان، وترجماته لمؤلفات مثل "سليمان القانوني" لأندري كلو، و"خير الدين والبلاد التونسية" لفان كريكن، و"ليلة الفلق: محمد والبيان الإسلامي" لقريبه المحلل النفسي المعروف في فرنسا فتحي بن سلامة، صاحب الكتاب الشهير "التحليل النفسي في محك الإسلام".
ليس هنالك في ظاهر الأمر أي وجه صلة بين إضرابات الممرضات في بريطانيا واجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. إلا أن الحدثين ينطويان على بعض مفارقات هذا العهد المتأخر من تاريخ "اللا-نظام" النيوليبرالي العولمي المترنح. ذلك أنه لم يسبق للممرضات في بريطانيا أن خرجن للإضراب في الشوارع على الإطلاق.
طول الاعتياد يضعف الانتباه ويحد من القدرة على الملاحظة، ولهذا فإن الزائر قد يرى ما لا يراه صاحب البيت، كما أن السياح يلاحظون في العادة أشياء، وتلفت أنظارهم تفاصيل لا يكاد يشعر بها أبناء البلاد.
اعترضتني في بداية إقامتي في أمريكا، منتصف الثمانينيات، مشكلتان "ثقافيتان". الأولى هي انعدام القهوة القوية الفوّاحة! قضية مصيرية ربما يأتي حديثها في فرصة قادمة. أما المشكلة الأخرى فهي أنه لم يكن في البلاد عهدئذ وجود لكرة القدم. كان الفقد مؤلما ولا عزاء باستثناء صفحات الرياضة في لوموند والشرق الأوسط اللتين لم يكن يقرأهما في مكتبة الكلية سواي. لهذا كانت العودة إلى أجواء كرة القدم من ألذ مباهج الاستقرار في لندن. على أن مفاجأة طريفة حصلت لي عندما وجدت صدى لمواجع الفقد الكروي هذه عند مصدر فكري رصين.
كان الإغريق يؤمنون بآلهتهم وأساطيرهم ولا يؤمنون، حيث كان علية القوم يرون حينا أن الأسطورة هي أساس الحقائق الفلسفية، وحينا آخر أنها تحريف خفيف لهذه الحقائق.