كتب

ما بعد الحداثة.. "البنيوية" منهج لمواجهة الإسلام السياسي

احتلّت مرحلة ما بعد الحداثة مكانة بارزة في منظور المفكرين الغربيين المعاصرين
احتلّت مرحلة ما بعد الحداثة مكانة بارزة في منظور المفكرين الغربيين المعاصرين

الكتاب: الحداثة في المنظور العربي المعاصر
الكاتب: د. عامر محي الدين محمد، ود. ماهر وجيه إبراهيم
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2022

(296صفحة من القطع الكبير) 

احتلّت مرحلة ما بعد الحداثة مكانة بارزة في منظور المفكرين الغربيين المعاصرين. وذلك من خلال بحثهم عن خيارات جديدة، أبرزها المنهج التفكيكي والبنيوي ودراسة العقل التواصلي.

المنهج البنيوي من منظور فوكو

يرى الباحثان أنَّ البنيوية أدّت دوراً مهماً في ثقافة ما بعد الحداثة. وذلك عبر اهتمام "فوكو" بمفهوم السلطة. فالسلطة في المجتمعات الغربية كما يرى فوكو لم تعد تستجيب إلى رغبات الشعب الأوروبي. أي إنّها لم تعد هدفاً أساسياً يمارسها الفرد أو جماعة سياسية محددة لتحقيق أهدافها السياسية، بل يُعدُّ الفرد مسؤولاً عن تحقيق مصالح نظامه السياسي قبل مصالحه. وذلك من خلالها ممارسة الهيئات السياسية لمهامها التشريعية والتنفيذية خدمةً لمصلحة النظام الحاكم، وليس تجسيداً للمصلحة الشعبية، فالسلطة ولا تتوانى عن استخدام القوة والقمع السياسي ضد من يعارضها ووضعهم في السجن الذي عدّهُ "فوكو" ركناً أساسياً من أركان قوة الدولة وقوة السلطة وهيبتها"(ص239).

ففي رأي "فوكو" هناك سيطرة لعقلية الزعامة على عقلية الدولة. ويعود السبب في رأيه إلى تشكيل جهاز انضباطي ينشر بين أفراده مفهوماً عقابياً قائماً على المعيارية. والتي لا يُمكن اختزالها في نظام القانون. فالمعيارية كما يرى فوكو تحاول أن تتسرّب إلى عمق سلوكيات الإنسان لتفرض عليها مساراً نمطياً معيناً. فهي لا تكتفي بالتدخل بالشأن الفردي في حال حدوث الفعل، وإنما تسعى إلى الاستحواذ على الوجود الإنساني في كُل أبعاده. إذ أنَّ العقابية (punitive) التي تتميز بها المنظومة الانضباطية (disciplinary) تُشكّل إجراءً لا مناص منه في تروض الجسد على سلوكيات معيارية. وإنّ هذه العقابية على صلة بجهاز معرفي، وظيفته إرساء التعليمات ونشرها، وإعطاء طابع الحقيقة للسلوكيات النمطية التي تمليها المنظومة الانضباطية. والهدف من ذلك إحداث شعور للرأي العام المحلي بقوة الحاكم. وبتجاوز هذا الواقع المفروض من السّلطة، لا بُدّ في رأي "فوكو" من تحقيق أمرين أساسيين: الأول، يكمن في تحرير الفرد من مركزية السلطة وأيديولوجيتها. والثاني يتجسّد في إدماج السلطة بشكل دقيق وعميق في الجسم الاجتماعي، بحيث تصبح جزءاً لا يتجزأ منه.

 

الشعوب العربية، ما زالت في الواقع الراهن تنغمس في معطياتها الأيديولوجية، الأمر الذي يتطلب من هذه الشعوب وعياً معرفياً واسعاً لإدراك هذه المفاهيم والعمل عليها لاحتواء عقلية التعصب وترسيخ ممارسة التسامح بكلّ أشكاله.

 



يقول الباحثان: "إنَّ الأولوية الأساسية لدى "فوكو" ينبغي أن تتبلور في تأسيس دولة مدنية ترسّخ الحرية السياسية للمواطن الأوروبي، وتسهم في تطويق الاستبداد السياسي. وذلك لكبح جماح النخبة السياسية الحاكمة عن ممارسة هيمنتها على عملية اتخاذ القرار السياسي من جهة، وإفساح المجال أمام الشعب الأوروبي، لكي يمارس بحرية اختياراته المهنية والاجتماعية من جهة ثانية، وإتاحة الفرصة للمجتمع المدني بالمشاركة في صنع الحياة السياسية من جهة ثالثة(ص241).

مكانة العقل في فكر هابرماس، يرى الباحثان أنَّ"هابرماس" يُعَدُّ أحد الفاعلين الأساسيين في ثقافة ما بعد الحداثة. ومن أهم أفكاره، أنّه عدّ العقل الركيزة الأساسية في النهوض بالوعي الإنساني المعاصر وتجديده. وذلك بتحويل دور العقل، من المنهج الأداتي إلى الحوار التواصلي القائم على النقد. ومن ثمَّ البحث في العقل عينه عن عناصر تمكّن الإنسان المعاصر من احتواء الانقسامات التي خلقتها الحداثة على مستوى المشروعية السياسية والأخلاقية، باجتراح أسس تكون عالمية في طبيعتها(ص241).

ويميّز "هابرماس" بين ثلاثة أنواع من المعارف:

أ ـ المعرفة العملية التجريبية (العلوم الفيزيائية وتطبيقاتها): تمثل هذه العلوم ذات البعد المصلحي التقني، وهدفها السيطرة على الطبيعة لمصلحة حاجات الإنسان، وعمادها العقل الأداتي.

ب ـ المعرفة العلمية: تتمثل في العلوم التاريخية (كل العلوم التي تحقق التفاعل البشري). وهدفها تحقيق التواصل بين الناس في إطار عمومي، وعمادها العقل التواصلي.

جـ ـ المعرفة التحريرية: تتمثل في العلوم الاجتماعية والسياسية، التي تهدف إلى تمكين الناس من التحكم بالسّلطة والمجتمع، وتحريرهم من الاستلاب والاستغلال. وعمادها العقل النقدي.

ووفق هذا التمييز بين المعارف، نلاحظ بأنّ العقل الأداتي يتصف بالسلوكية الفردية الهادفة إلى تحقيق منفعة ذاتية، في حين العقل التواصلي هو عقل ديناميكي يتفاعل مع حركة المجتمع لبناء عقل موضوعي يرمي إلى ترسيخ الحرية والحوار وتبادل السلطة.

إنّ الغاية السياسية التي يسعى "هابرماس" إلى تحقيقها، تندرج في إطار العقلانية التواصلية النقدية التي حدّدها في ثلاث مهام أساسية: 

أ ـ الانتصار للتكامل في الرؤية العلمية بدلاً من التجزؤ.
ب ـ بيان ما يمثّل العنصر الجامع والكوني في المعرفة العلمية.
جـ ـ كشف العناصر التي تجعل الممارسة العلمية نشاطاً جامعاً بين الثقافات على اختلافها.

يقول الباحثان:"إنّ العقل الأداتي هو عقل براغماتي يتصرف حسب رغباته وأهدافه، ويجعل من الإنسان مجرد أداة مادية تحصر العقل الإنساني بالفكر التجريبي فحسب. وهذا الفكر يسهم في إحداث انقسام بين الذات الفردية والاتصال الجماعي، ويُمكّن الفرد من الانخراط في سيرورة الحياة المادية فحسب، ويستبعد الفهم المتبادل بين الأراد في سبيل تنسيق العمل الاجتماعي. في حين العقل التواصلي هو فعل عقلاني يرفض سياسة الإقصاء الفكري بين المجتمعات البشرية، ويؤكد أنّ المعرفة هي عملية عقلية تتطلب تشارك جميع الثقافات المختلفة في ترسيخ الديمقراطية والعالمية وتحجيم النزعة البراغماتية بين الشعوب(ص243).

دريدا ومنهجه التفكيكي

بالنسبة للباحثين، يُعد "جاك دريدا" أحد أهم فلاسفة ومفكري ما بعد الحداثة، لأنَه جعل من التفكيك إستراتيجية تستهدف باستمرار تحقيق مطلب إيجابي متمثل في تفكيك الفكر والنص والخطاب. وذلك عبر آلية التقويض والهدم، لبناء المعاني المختلفة والمتناقضة. فمدلول المعنى لدى دريدا هو عبارة عن مدلولات مختلفة، وليس مدلولاً واحداً. وأنّ المعنى لا يُبنى على الإحالة المرجعية، بل على القراءة النقدية التي تفكّك النص المدروس بهدف إظهار قراءات متعددة تتمثل في الآتي: 

أ ـ تجاوز الذات الفردية التي تعتمد النص بوصفه مرجعية أيديولوجية.
ب ـ استحضار المحجوب على المكشوف أو الغائب على الحاضر.
ت ـ اعتماد النقد الحواري في أثناء تفاعل النص مع النصوص الأخرى بقراءة عميقة نحو عقلانية نقدية.

وعلى ضوء ذلك يقرأ دريدا ما كتبه كل من هنتنغتون وفوكوياما فالأول كتب يقول: "إنّ عالماً دون سيادة أمريكية سيكون عالماً مقسّما بدرجة من العنف والاضطراب أكبر، وبدرجة من الديمقراطية والنمو الاقتصادي أقل من العالم الذي تستمر فيه الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة النفوذ، ثم يضيف، إنّ السيادة الدولية المستمرة للولايات المتحدة الأمريكية هي أمر رئيس ومهم لرفاه وأمن الأمريكيين ولمستقبل الحرية، والاقتصاديات المفتوحة، والنظام الدولي في العالم".

أما "فوكوياما"، فقد أكد أهمية الديمقراطية الليبرالية، بقوله: "إنّ النظام الليبرالي الغربي بوصفه بنيةً فكرية جديدة، سيحقق الطموح السياسي الواقعي لمختلف الثقافات في العالم، كما أن التطور التكنولوجي سيؤدي إلى تطوير المجتمعات المعاصرة خارج إطار اعتمادها على أصولها التاريخية لتتحول في النهاية إلى مجتمع ليبرالي واحد على نمط الثقافة الغربية".

إنّ قراءة هذه النصوص من وجهة نظر دريدا تشير فحسب إلى أن الحرية الاقتصادية التي أرادت الولايات المتحدة الأمريكية نشرها في العالم، جعلت منها ذريعة لاستخدام قوتها العسكرية ضد الشعوب العربية والإسلامية، الأمر الذي قوّض مقولاتها المركزية وفضح سلوكها المبني على الاستغلال والاستعمار والإقصاء.

 

لأنّ الحداثة تشكّل سلسلة من التصورات الحضارية التي تؤمن بالتطور المستمر للبشرية، فإنّ مرحلة ما بعد الحداثة تسهم في تجديد المعرفة، من خلال البحث عن خيارات جديدة من النظريات والمناهج العلمية المستحدثة.

 



في نهاية هذا الكتاب الثري، يرى الباحثان أنه في سياق رؤية المفكرين العرب تجاه المشروع النهضوي العربي، توصلا إلى نتيجة أساسية، وهي أنَّ الحل الأساس في تطويق الإسلام السياسي، يكمن في ممارسة العلمانية المنفتحة وثقافة الحوار والديمقراطية التعددية كأولوية واقعية في بناء فكر متطور يسعى إلى مداهمة العقل الأصولي الإسلامي، فضلاً عن تطبيق المناهج المعرفية المستوحاة من العلوم الإنسانية، مثل المنهج التفكيكي والتاريخي. وذلك لأنها ترتكز على تعرية السّلوك الديني والسياسي الذي يمارسه أصحاب الفكر المتطرف الهادف إلى جعل النص الديني قانوناً ثابتاً يرمي إلى انتقاء الأحاديث الإسلامية ومنحها طابع العدائية عبر التفسير الخاطئ لهذه الأحاديث، بهدف التأثير في سلوك الشباب العربي وإفساد عقولهم، وهنا سعى المفكرون العرب إلى إدماج الشعوب العربية في دائرة العقل النقدي، الأمر الذي يُقلّص الهيجان الأيديولوجي المهيمن على علاقة هذه الشعوب بتقديس أفكارها بذريعة امتلاكها الحقيقة المطلقة في منح الصفة الشرعية لنصوصها الدينية، وتعميق أيديولوجيتها السياسية في التراث العربي ـ الإسلامي. ولذلك، فالسبيل الوحيد يتمثل في البحث عن مقولات فكرية كان الهدف منها التمرس بسياسة العقل التواصلي في مجابهة العقلية الدكتاتورية الحاكمة والسّاعية إلى بسط هيمنتها على مؤسسات الدولة وحياة الأفراد، وتحجيم دور رجال الدين الذي حوّلوا الثقافات الإسلامية إلى ثقافات متعارضة.

ولأنّ الحداثة تشكّل سلسلة من التصورات الحضارية التي تؤمن بالتطور المستمر للبشرية، فإنّ مرحلة ما بعد الحداثة تسهم في تجديد المعرفة، من خلال البحث عن خيارات جديدة من النظريات والمناهج العلمية المستحدثة. وأبرزها المنهج البنيوي، الذي أكّد "فوكو" من خلاله أهمية تأسيس نظام سياسي يدعم قرارات شعبه في إدارة شؤون دولته، وهذا بدوره يجسّد التعددية الفكرية التي لا يمكن أن تتحقق إلاّ من خلال المشاركة في اتخاذ القرار السياسي لاحتواء الفعل الاستبدادي، ومن ثم بناء مجتمع حداثي بكل أبعاده، يجعل من الاختلاف الفكري وسيلة للتفاهم المتواصل بين مكونات المجتمع الواحد.

أمّا فيما يرتبط بتحديد مواقف المفكرين العرب المعاصرين من العقلانية الغربية، اتضح للباحثين وجود توافق بين "الجابري وحرب" حول إدراك أهمية الاستفادة من المفاهيم الغربية المنتجة وتوظيفها في خدمة العقل العربي لتقيق الترابط بين أهدافها ونتائجها.وبالنسبة إلى موقف أركون حول البحث العلمي الغربي، فقد لمس دوراً جزئياً فيه، لأنّه لم يجسّد النزعة الفكرية التوسعية في التعمق بدراسة التراث الإسلامي، والبحث عن مقولاته التراثية المنضوية في تعددية الرأي والتسامح السياسي والاجتماعي.

وعلى الرغم من ظهور الاختلاف في الرؤى التي جسّدها المفكرون العرب المعاصرون إزاء العقلانية الغربية، إلا أنَّ الباحثين لاحظا وجود مواقف فكرية موحّدة ضد نظرية صراع الحضارات ومقولة نهاية التاريخ، لأنهما يدفعان الغرب بإمكاناته المادية والعلمية إلى ممارسة الهيمنة ونفي الآخر والسيطرة على ثرواته الفكرية، وقد أجمع هؤلاء المفكرون على أنّه لا يمكن أن تكون العلاقة بين الحضارات على أساس التصادم، وإقامة مركزية حضارية تتحكم بالآخر، وتفرض نموذجها الاقتصادي عليه، بل لا بُدّ أن تكون هذه العلاقة محكومة بالحوار والاستجابة الواعية لتحديات العصر نحو بناء التفاعل الحضاري.

وفي الختام، يلقي الباحثان الضوء على عدد من النقاط الاستنتاجية، وذلك على الشكل الآتي:

ـ نجاح المفكرين العرب المعاصرين في توظيف مفاهيم تحليلية ونقدية، استطاعت كشف الأزمات التي تواجه المجتمعات العربية، وتُقدّم في الوقت نفسه حلولاً لاحتوائها منها الحاجة إلى تطبيق العقل التواصلي والعلمانية المنفتحة والديمقراطية في مساعدة الشعوب العربية على تجاوز مشكلاتها السياسية والاقتصادية والدينية، إلا أنّ الشعوب العربية، ما زالت في الواقع الراهن تنغمس في معطياتها الأيديولوجية، الأمر الذي يتطلب من هذه الشعوب وعياً معرفياً واسعاً لإدراك هذه المفاهيم والعمل عليها لاحتواء عقلية التعصب وترسيخ ممارسة التسامح بكلّ أشكاله.

2 ـ قدرة المشروعات الفكرية المعاصرة لـ(أركون والجابري وحرب) على تقديم الخبرة المعرفية للشعوب العربية، ولا سيما التركيز على التخطيط الإستراتيجي وبرمجته على أرض الواقع، لأنّ التخطيط يمتلك القدرة على التحليل والتقييم السليم للمعلومات، الأمر الذي يؤدي إلى استنتاجات صحيحة تخدم أهداف التخطيط وتوجهه نحو الصواب.

3 ـ إثبات المفكرين العرب برؤيتهم النقدية الواعية، أنه لا يمكن لأي دولة أن تؤمّن استقرار أمنها الوطني دون ممارسة الأنسنة بشكل واقعي، لأنها تتمثل في الحكمة والتعقّل التام والقدرة على الحوار والإقناع.

4 ـ استطاع المفكرون العرب البرهنة على أنّ النقاط الضرورية للحوار الفعال بين الثقافات تكمن في النقد الذاتي وقبول الرأي الآخر المغاير، وهذا لا يتحقق إلاّ بتوافر إدارة البحث عن المصالح المشتركة، والتي تمثّل بدورها أوتاداً أساسية في الحدّ من لغة العنف والصراع الأيديولوجي.

5 ـ اعتماد الفكر العربي المعاصر على بلورة رؤى إصلاحية موضوعية تؤكد أنّ المشروع النهضوي العربي لا يتحقق إلاّ بتوافر إدارة البحث عن المصالح المشتركة، التي تمثّل بدورها أوتاداً أساسية في الحدّ من لغة العنف والصراع الأيديولوجي.

6 ـ اعتماد الفكر العربي المعاصر على بلورة رؤى إصلاحية موضوعية تؤكد أنّ المشروع النهضوي العربي لا يتحقق إلاّ إذا ارتكز على إرادة التغيير والممارسة العقلانية.

6 ـ حرص المفكرين العرب المعاصرين على ممارسة النزعة الاحتجاجية النقدية في مواجهة الإسلام السياسي، لأنّه منهجية ثبوتية دوغمائية تشتغل بمنطق شمولي استبدادي، وتعمل بلغة الإدانة والتكفير للآخر.

 

إقرأ أيضا: الرؤية الحداثية للنص الديني.. حرب والجابري وأركون نموذجا


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم