كتب

الفلسطينيون في سوريا.. ذكريات نكبة مجتمعات ممزقة

كتاب يرصد صورة اجتماعية وسياسية لمجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا..
كتاب يرصد صورة اجتماعية وسياسية لمجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا..
بعد إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين في سنة 1948، وتشريد ما يقارب الـ800 ألف فلسطيني، مع محو ما يقارب الـ531 قرية، وأحد عشر حياً مدينياً، لجأ منهم مئة ألف طردوا من مدنهم وقراهم إلى سوريا.

ترصد الباحثة وأستاذة علم الاجتماع في «الجامعة الأميركية في بيروت»، أناهيد الحردان، تجربة هؤلاء الذين اندمجوا بمرور الوقت في المجتمع السوري، لفهم نكبة 1948 في ذاكرهم الشعبية، وقد قامت الباحثة بإجراء مقابلات بإجراء 63 مقابلة ميدانية نوعية وعميقة مع ثلاثة أجيال من اللاجئين الفلسطينيين وناشطي المجتمع المدني، وعاملين في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وموظفين في الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. في محاولة لمعرفة كيفية تطور مفهوم النكبة، الذي يعدّ المؤشر المركزي الدال على ماضي وحاضر اللاجئين الفلسطينيين في خطابات الفكر العربي وسياسة سوريا تجاه الفلسطينيين.

في هذا السياق رسمت أناهيد الحردان، صورة اجتماعية وسياسية لمجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، في كتابها "الفلسطينيون في سوريا: ذكريات نكبة مجتمعات ممزقة"، الصادر عن"مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2020"، ترجمة إلى العربية المفكر الراحل محمد الأسعد.

هذا الكتاب "يدرس ذكريات الفلسطينيين في سوريا وتواريخهم. ويستكشف كيف أن سنة  1948 تم تصورها أول مرة كنكبة، وكيف تحول وتغير هذا التصور نتيجة نهوض حركة التحرير الفلسطينية وترديها. إنه يدرس الطرق التي رفض بها نشطاء حق عودة اللاجئين الفلسطينيين أن تمأسس اتفاقات أوسلو الفلسطينية ـ الإسرائيلية في سنة 1993 للفصل بين حق العودة والتحرير الفلسطيني، ويستكشف ما يمتلكون من خطابات ذاكرة مفيدة سياسياً، وممارسات موضوعها النكبة ابتكروها في مجتمعاتهم رداً على اتفاقيات أوسلو".

جاء تقسيم الكتاب في ستة فصول (351 صفحة من القطع المتوسط)، أختص أولها "النكبة في الفكر العربي"، تحلل الباحثة منطق خطاب النكبة بتصوره كنكبة عربية، ثم اختفائها نتيجة الهزيمة في حرب حزيران/ يونيو 1967، وأصبحت الأولوية للهزيمة الجديدة، لوقت قصير، كنكبة/ نكسة جديدة، قبل أن تختفى بكلا مظهريها، القديم والجديد (النكسة)، اختفاء تاماً من الكتابات المعنية بالموضوع. ومع ذلك، حل منطق خطاب آخر ظهر لاحقاً محل خطابات النكبة العربية؛ خطاب معنى بالنكبة الفلسطينية، كشأن فلسطيني، هو الذي نألفه أكثر في هذه الأيام.

توفر هذه القراءة التحليلية  للنكبة نقطة البداية التي منها يمكن الشروع في دراسة الكيفية التي تناول بها نشطاء اللاجئين الفلسطينيين النكبة، وكيف فُهمت في مظهرها الفلسطيني حصراً، ليعززوا أهدافاً سياسية في مجتمعاتهم ما بعد أوسلو.

من المحزن والمؤسف في وقت واحد، أن الحرب في سوريا دمرت جماعات جيل فلسطين ومزقتها للمرة الأخيرة. فـ"مخيم اليرموك" الذي كان بمثابة عاصمة الشتات الفلسطيني، لم يكن من الممكن التعرف عليه حتى بالنسبة لأولئك الذين عرفوا كل زقاق من أزقة المخيم وكل زاوية، الحطام وخرائب المباني المقصوفة بالقنابل، والأهمال الجوعي والمتعبين، والأزقة والشوارع التي أصبحت مسكنا ً للأشباح هي البقايا المؤلمة لمجتمع تمزق.
في الفصل الثاني "مجتمع اللاجئين في سوريا"، تتناول أناهيد سياق المجتمع الفلسطيني اللاجئ التاريخي والسياسي والاجتماعي في سوريا، وتتبع الدور الذي قامت به مؤسسات، وضمنها حركة التحرير الفلسطينية والدولة والأونروا، في تشكيل هذا المجتمع.  وتؤكد الباحثة في هذا السياق على اتساع الهوة بين القيادة الفلسطينية ومجتمع اللاجئين في سورية، "الذي هو اليوم بلا قيادة ولا يمثله أحد في ظل نكبة ذات أبعاد غير مسبوقة".

في الفصل الثالث بعنوان "حركة حق العودة وذكريات من أجل العودة"، تدرس الباحثة واحدة  من المؤسسات، حركة نشطاء حق العودة، والطرق التي عزز فيها ظهورها بعد أوسلو، سياسياً، لقد أقام الناشطون، بخطابات الذاكرة المشتقة من استنفارهم الذكريات، النكبة كمعلم دال على أزمنة مجتمعهم وأمكنته. فأصبحت النكبة تدل على حدث استثنائي فريد من نوعه، يرتكز على ظلم تاريخي بحاجة إلى أن يعالج بالعودة.

أما الفصل الرابع "رواية حكاية فلسطين وتناقل فقدانها"، تتناول الباحثة بالتحليل الدور المركزي لجيل فلسطين في رواية ونقل ذكريات خسارة اللاجئين الفلسطينيين الناجمة عن النكبة.

وتبعاً لذلك فسر هؤلاء النشطاء [حركة العودة] النكبة بصفتها موقع ذكرى كارثية يَسِمُ أزمنة اللاجئين الفلسطينيين وأمكنتهم في الماضى والحاضر. ولهذا، منح اللاجئون الفلسطينيون النكبة معنى أوسع بوجه عام، بأخذهم في الاعتبار ذكريات عائلاتهم وتواريخها، ومعاني هذه الذكريات كما تم تعريفها والتعبير عنها ونشرها في مجتمعاتهم الأوسع.  وبذلك تصبح النكبة دالة وطنية مهمة تخدم أهدافًا سياسية محددة تتحدى مأسسة أوسلو للفصل الفعلي بين التحرير والعودة.

تنتقل أناهيد في الفصل الخامس "جماعات جيل فلسطين وذكريات النكبة"، إلى البحث في ذكريات أفراد المجتمع وتواريخهم ورواياتهم عن النكبة. ويمكن قراءة الذكريات المتداولة في أوساط هذه الجماعات عبر العلاقة بمراجع متعددة. فنجده، أحياناً تؤكد معانى نكبة سنة 1948 بصفتها كارثة ينطوي معناها على أحياء الذكرى والتعبئة وضمان العودة. وفي أحيان أخرى نجدها تتحدى الوحدانية المنسوبة إلى نكبة 1948 في خطابات الذاكرة الشائعة، وذلك باستعمال صيغة الجمع في الخديث عنها، وتوسيع إطارها الزمني.

وهي تدل أيضاً على ذكريات من نوع آخر عن سنة 1948 اكتسبت خصائص أسطورية بتحولها إلى صور خطابية وطنية في مخيلة وتعبئة ذكريات من أجل العودة في مرحلة ما بعر أوسلو. وأخيرًا، تحفر هذه الذكريات أمكنة ملائمة لجيل فلسطين في تخيلات الذاكرة الشائعة، باعتبار أن أفعاله كانت في سنة 1948 أفعالاً بطولية أو مفهومة فعلاً.

ترصد الباحثة في الفصل السادس"ذكريات الجيل الثاني والثالث التابعة عن فلسطين وروايتاهما عن ذكرى النكبة"، الذكريات التابعة لجيلَيْ اللاجئين الثاني والثالث عن الخسارة وفقدان فلسطين. وترى أناهيد "أن جيل فلسطين روى في أوساطها العائلية ذكريات تتمحور حول كل ما كان مفقودًا، ولهذا كان كل ما نُقل إليها هو الفقدان ذاته". هذا الجيل الوحيد "الذي يحمل ذكريات فلسطين والنكبة في وقت واحد".

وختامًا، من المحزن والمؤسف في وقت واحد، أن الحرب في سوريا دمرت جماعات جيل فلسطين ومزقتها للمرة الأخيرة. فـ"مخيم اليرموك" الذي كان بمثابة عاصمة الشتات الفلسطيني، لم يكن من الممكن التعرف عليه حتى بالنسبة لأولئك الذين عرفوا كل زقاق من أزقة المخيم وكل زاوية، الحطام وخرائب المباني المقصوفة بالقنابل، والأهمال الجوعي والمتعبين، والأزقة والشوارع التي أصبحت مسكنا ً للأشباح هي البقايا المؤلمة لمجتمع تمزق.

*كاتب وباحِث فلسطيني
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم