كتب

شهادات حية تروي قصة مدينة حيفا من الحكم العثماني إلى الاحتلال

لا يعتبر الكتاب كتابا تاريخيا تحليليًا لتاريخ حيفا العام وإنما هو أقرب لكونه كتاب مذكرات يحكي قصص وسرديات شخصية لبعض سكانها..
لا يعتبر الكتاب كتابا تاريخيا تحليليًا لتاريخ حيفا العام وإنما هو أقرب لكونه كتاب مذكرات يحكي قصص وسرديات شخصية لبعض سكانها..
الكتاب: "حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت"
المؤلف: روضة غنايم
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأول،ى بيروت 2021.


يحكي الكتاب الذي بين أيدينا قصةً من قصص مدينة حيفا مع نهاية الحقبة العثمانية ثم الانتدابية فالنكبة، ويعيد الكتاب رواية قصة بعض أحياء حيفا بكل ما يثيره اسم المدينة من ذكريات وأشجان وأحزان وتاريخ، وبكل ما تحمله من تاريخ مسكون بالجمال والرهبة والنكبة..

مدينة حيفا التي تحولت من مدينة صغيرة نسبيًا تسكن بجوار البحر يعيش أهلها البسطاء على صيد السمك إلى مدينة صناعية آهلة بالحياة والحركة، ومركز تجاري نشط، حيوي في الشرق الأوسط؛ بعد أن تم تطوير الميناء وسكة الحديد أواخر العهد العثماني وما تلاه من وفود المستعمرين الأجانب من ألمان ومبشرين فرنسيين وإيطاليين وبهائيين وغيرهم، إضافة إلى العمَّال العرب الوافدين من مختلف الدول العربية، والموظفون الأتراك واليونان الذين ساهموا في تطوير المدينة ورفدها بالكادر البشري الذي أسهم في تطويرها عمرانيًا وثقافيا وبنى تحتية. حيث أخذت المدينة شكلها وثبتت أركانها كمدينة مركزية في فلسطين أواسط الثلاثينات من القرن العشرين.

يحكي الكتاب ـ كما أسلفتُ ـ قصة خمسة أحياء في حيفا هي: البلدة العتيقة، حي الألمانية، حي عباس، حي وادي النسناس، حي وادي الصليب. وهي أحياء بنيت منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى عام 1948م تقريبًا، فيوثق الكتاب ما تأصل فيها من عمارة وثقافة وحكايا قدمت بمن سكنها من سكان مختلفين دينيًا وعرقيًا وثقافيًا تشكيلًا ثقافيًا وإنسانيًا فسيفسائيًا، ما أنشأ لدينا تميزًا ثقافيًا ظهر على شكل سينما ومسرح ومقاهي وصحف وكتب وغيرها من الإنتاجات التي كانت حالةً متقدمة في تلك الفترة التاريخية على مستوى فلسطين والعالم العربي.

تنطلق الباحثة في كتابها من التاريخ العام للمدينة بشكل مختصر لتتوسع في هذا التاريخ من خلال الحيِّز الخاص الذي يحكي سرديات الناس الشخصية خلال الفترة التي حددتها الكاتبة، سرديات الناس العاديين البسطاء وسرديات الكتَّاب والمثقفين والفنانين كل ذلك من أفواههم مباشرةً، ومن خلال التجول في ذاكرة المكان برفقة بعضهم، حيث يستعيد الناس كل شيء عاشوه بأرواحهم ومشاعرهم وعواطفهم، ويستعيدونه ممزوجًا بالحنين والألم والحسرة، بعد أن كانت النكبة عملية تطهير عرقي للإنسان ومحاولة عميقة لمحو الذاكرة بمحو معالم العمران وإسكات صوت الذين عاشوا فيه ثم استبدالهم بالغرباء.

هذا النوع من الكتابة في الحالة الفلسطينية مهم من عدة وجوه أبرزها إعادة بعث الحياة في مرحلة أراد الاحتلال محوها من الوجود من خلال تدمير الأماكن ومحوها من الواقع ثم قتل أهلها أو تهجيرهم، ولذلك فإن مهمة هذا البحث وغيره إضافة إلى تسليطه الضوء على صوتٍ خافت متداول في النطاق الخاص بين الأهل والأصدقاء والأجداد والأحفاد إلى صوتٍ عالٍ موظفٍ ضمن سياق سردية فلسطينية يُراد محوها، كما يمكن ربطه بالسردية التاريخية المدونة والتي اعتمدت على الوثائق والمؤلفات التاريخية والروايات التي دونها قادة وزعماء محليون في مرحلة النكبة وما قبلها وبعدها، لتكون هذه الشهادات الشخصية الصورة المكملة والموسعة لتلك الروايات التي تسجل الصوت الرسمي لطبقة مجتمعية كان لها دورها كما كان لغيرها دورُه.

إضافة إلى ذلك كان البعد الاجتماعي الذي كشفت عنه المقابلات واحدًا من الأبعاد المهمة التي لا يُفطن إليها كثيرًا حيث أظهرت الباحثة بعض جوانبه المرتبطة ـ على سبيل المثال ـ بمسألة الزواج والطبقية المتأصلة والعادات والتقاليد التي لم تستطع حتى النكبة محوها كما لاحظت الباحثة.

وتأتي أهمية هذا الكتاب كذلك من خلال بعثه لتاريخ أماكن يعمل الاحتلال على تدمير ما بقي منها اليوم ليقيم فوقها مدنًا حديثةً وفق طراز يريد أن يصبغ به المكان بدل صبغته الأصيلة، فالبلدة القديمة يتم تدميرها اليوم بشكل ممنهج ليقوم مكانها حي جديد، وحي وادي الصليب يشهد ذات العمل سيؤدي إلى موته وتغييب معالمه وحتى حي الألمانية ذو الطراز الأوروبي قرر الاحتلال هدم بعض أبنيته لتقوم الاحتجاجات بمبادرات فردية للحفاظ على شيء من معالم المكان.

يعرض الكتاب شهادة 44 حالة تمثل شهادات الناس، حملةُ همِّ الواقع المُعاش الذين عاشوا عملية التهجير وطرد السكان أصحاب الأرض بقوة السلاح والإرهاب والقتل والبطش مرغمين، والذين يعاكسون بروايتهم رواية الاحتلال التي حاولت أن تضع سردية مقابلة؛ توحي بهروب السكان العرب مقابل السكان اليهود في سياق حرب داخلية فضَّل السكان العرب فيها الهروب بشكل طوعي من أرضهم وبيوتهم وترك كل ما فيها.

ينقسم الكتاب إلى مقدمة وتمهيد ثم خمسة فصول وخاتمة، يحكي الفصل الأول فيها قصة حي حيفا العتيقة التي أنشئت عام 1850م، فتحكي الباحثة تاريخ المكان وجغرافيته، حيث فحصت الباحثة الخرائط والصور الجوية وما بقي وما أزيل عبر خط الزمن عبر تاريخ الدراسة، إضافة إلى صور شخصيات وبنايات وأماكن وبعض القصص الشخصية التي يرويها أصحابها.

أما الفصل الثاني ففيه قصة حي الكولونية التمبلرية الألمانية ـ حي الألمانية، ففي عام 1869م خلال العهد العثماني أقامت مجموعة مستوطنين ألمان ينتمون إلى حركة دينية تدعى التمبلريين ـ أي فرسان الهيكل ـ حيًا عرف بالكولونية الألمانية، واستمر وجود الألمان حوالي 80 عامًا حتى قام البريطانيون بتهجيرهم وصولًا إلى تهجير آخرهم في عهد الاحتلال الإسرائيلي عام 1950م. حيث دفعت لاحقًا إسرائيل تعويضات للعائلات الألمانية التي هجرت وتركت أملاكها خلفها. يتميز هذا الفصل بأنه قدم رواية لأحداث من أشخاص ينتمون إلى قوميات وثقافات مختلفة كان مصيرهم متشابهًا لمصير السكان العرب؛ التهجير والاقتلاع.

ويحكي الفصل الثالث قصة حي عباس الذي بنيت أول البيوت فيه مطلع الثلاثينات من القرن العشرين، وفي عام 1940م سجل اسم شارع عباس في البلدية بشكل رسمي، في بداية الخمسينيات سكن الحي عرب ويهود وبهائيون وأرمن وغيرهم.

ويحكي الفصل الرابع قصة حي وادي النسناس الذي أنشئ في منتصف القرن التاسع عشر على يد مجموعة من المسيحيين الحيفاويين؛ ويعتبر الحي من الأحياء القليلة التي حافظت على النمط العمراني والحياتي العربي بعد النكبة 1948م، حيث تم جمع أغلب العرب المسلمين والمسيحيين المتبقين بعد النكبة في هذا الحي بناء على طلب الاحتلال.

تركز الكتابة عن حيفا عادةً حول العلاقة بين العرب واليهود بشكل عام، بينما جاء هذا الكتاب يعيد سرد حكاية المدينة بكل مكوناتها الإنسانية المتعلقة بالمكان والزمان والإنسان والعلاقات التي قادت شكل الحياة ضمن نمط متداخل متكامل خلال فترة مفصلية في تاريخ المدينة قبل تدمير جزء كبير من أحيائها وإعادة تشكيلها وفق وجهة نظر استعمارية.
أما الفصل الخامس فيحكي قصة حي وادي الصليب الذي تأسس خارج أسوار المدينة كما بناها ظاهر العمر الريداني، حيث شُرِع في بناء بيوته في نهاية القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين نتيجة الاكتظاظ داخل أسوار البلدة العتيقة وكان هذا الحي يعتبر هو الحي الإسلامي خلال الفترة العثمانية والانتدابية.

تناولت الباحثة من خلال المقابلات التسجيلية ـ مع شخصيات عربية على الأغلب ـ تاريخ حيفا الشخصي والعام بشكل متداخل بين الفترة الانتدابية ثم الاحتلال الإسرائيلي، وتعيد الباحثة اكتشاف العلاقة بين المجموعات السكانية المختلفة العرب واليهود والألمان وغيرهم. ويعكس الكتاب حالة التناقض والانفصام التي عاشتها العلاقات العربية اليهودية الإنسانية من ناحية والسياسية من ناحية أخرى قبل التهجير حيث هجِّر معظم سكان المدينة الذين بلغ عددهم حوالي 60 ألف شخص في حين بقي منهم 3500 فقط سكن معظمهم حي وادي النسناس وسكن بعضهم في حي عباس.

تركز الكتابة عن حيفا عادةً حول العلاقة بين العرب واليهود بشكل عام، بينما جاء هذا الكتاب يعيد سرد حكاية المدينة بكل مكوناتها الإنسانية المتعلقة بالمكان والزمان والإنسان والعلاقات التي قادت شكل الحياة ضمن نمط متداخل متكامل خلال فترة مفصلية في تاريخ المدينة قبل تدمير جزء كبير من أحيائها وإعادة تشكيلها وفق وجهة نظر استعمارية.

اعتمدت الكاتبة التأريخ الشفوي الذي يعبر عن سردية شخصية ذاتية تعبر عن بعد إنساني وجداني شخصي ضمن السياق التاريخي العام الذي يهمل عادة مثل هذه السرديات الشخصية لحساب السرديات التاريخية الكبرى وعليه فقد استطاعت إعادة استكشاف وتشييد واقع اجتماعي مجهول في بناء السردية الكبرى لمدينة حيفا.

لا يعتبر الكتاب كتابا تاريخيا تحليليًا لتاريخ حيفا العام وإنما كان أقرب لكونه كتاب مذكرات يحكي قصص وسرديات شخصية لبعض سكانها ويحكي قصتهم مع المدينة من نهاية العهد العثماني حتى كتابته في الوقت الحاضر، وتميز بقدرة الكاتبة على زيارة المكان نفسه والاستفادة من قدرتها على التعامل مع اللغات العربية والعبرية وغيرها لرسم صورة أوسع عن حيفا.

كما استخدمت الباحثة خرائط خاصة وصور جوية حيث شكلت نصوصًا بصرية أسهمت في توضيح وتشكيل التغيرات التي مرت على بعض المناطق في الحارات الخمس التي تناولتها الباحثة في كتابها. إضافة إلى استخدام الصور التي صورتها الباحثة بنفسها أو استعادتها من الأرشيفات الشخصية لأصحاب المقابلات، وكان يمكن في هذا المجال استخدام صور ذات جودة أفضل ودقة أفضل وزوايا تصوير أفضل من تلك التي وردت في الكتاب، في سياق تطور هائل في مجال الصورة اليوم حيث كان يمكن الاستعانة بمتخصصين في هذا المجال ما كان يمكن أن يضيف أبعاد وقيمة أفضل للصور التي وضعتها الباحثة وصورتها بنفسها وأخذت حيزًا كبيرًا جدًا من مساحة الكتاب.

أخيرًا فإن الكتاب واحدً من الكتب التي تشكل إضافة نوعية لسردية فلسطينية لا تزال تحتاج إلى الكثير من الجهد لبعثها ودعمها، والاستفادة القصوى من أصحاب الأرض الذين لا يزالون على قيد الحياة ولا تزال ذاكرة تنبض بشيء من الحياة والحركة والتغيرات التي كانت قبل وبعد نكبة فلسطين وشعبها.

*أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم.
التعليقات (0)