ملفات وتقارير

هل حانت ساعة تقسيم المنطقة من جديد؟

أزمة اللاجئين السورييين وتفريغ سوريا من السوريين تعبر عن الأزمة الحقيقية التي تعيشها المنطقة ـ أ ف ب
أزمة اللاجئين السورييين وتفريغ سوريا من السوريين تعبر عن الأزمة الحقيقية التي تعيشها المنطقة ـ أ ف ب
بعد اشتعال الحرائق الداخلية في دول الربيع العربي، وتأجج نيران الحروب الطائفية (السنية الشيعية) في المنطقة، انبعثت الحياة من جديد في رؤى وتصورات غربية قديمة، اقترح واضعوها إعادة ترسيم حدود المنطقة، وتقسيمها مرة أخرى بذرائع سياسية وديمغرافية مختلفة.

ووفقا للمشككين في جدوى الربيع العربي ومغزاه، فإن الثورات العربية بمآلاتها الدموية المفزعة، هي التي هيأت الظروف الموضوعية لإحياء تلك المشاريع ودفعتها إلى الصدارة، لأن الربيع العربي بعد تحوله إلى خريف دامٍ لم يكن إلا القنطرة التي ستعبر عليها مشاريع "تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ" على حد قولهم.  

يأتي على رأس قائمة تلك المشاريع، الخريطة المقترحة من المستشرق والمؤرخ البريطاني الأمريكي "برنارد لويس"، سنة 1979 لإعادة تقسيم المنطقة، تبعتها رؤى ومقترحات أخرى. وقد ضم العدد (74) من سلسلة ترجمات الزيتونة – كانون الثاني/ يناير 2013، التي يصدرها مركز الزيتونية للدراسات والاستشارات، أربعة مقالات تناقش كيفية إعادة رسم خريطة أجزاء من العالم.

ففي المقال الأول، وبحسب مقدمة المترجم، يقول ألوف بن، رئيس تحرير جريدة هآرتس الإسرائيلية في مقاله "تحذير: الشرق الأوسط في مرحلة الإعمار"، إن الانتفاضات الشعبية المتصاعدة، والصراعات الداخلية الطاحنة ستؤدي إلى إعادة رسم خرائط إقليمية، والتي ستكون بعيدة كل البعد عن اتفاقية سايكس بيكو وغيرها من الاتفاقات. 

أما المقال الثاني وعنوانه "العالم الجديد" فاستعرض فيه المؤلف الأمريكي فرانك جاكويس، وباراج خانا المؤلف الهندي الأمريكي والخبير في العلاقات الدولية، خرائط واضحة لما يمكن أن تكون أحدث معالم الحدود الدولية حول العالم، دولة للعلويين، واتحاد الخليج العربي، وكردستان المستقلة، وأذربيجان الكبرى، وباشتونستان، وبلوشستان.

وفي المقال الثالث وعنوانه "الانفصال قد يكون مفيدا"، يقول باراج خانا إن "انقسام جنوب السودان هو مجرد بداية، وأنه من الممكن أن يشهد العالم قريبا 300 دولة مستقلة ذات سيادة، وأنه لا ضير في ذلك". 

وتضمن المقال الرابع "حدود الدم: كيف سيبدو الشرق الأوسط بحالة أفضل" للجنرال الأمريكي المتقاعد، رالف بيترز، مقتطفات عن نظريته لتقسيم المنطقة، يرى فيها أن الخريطة الجديدة ستحل بعضا من مسائل "الحدود الفاسدة"، وستعوض "المجموعات البشرية المخدوعة..". 

فما مدى جدية وواقعية تلك المقترحات والتصورات الرامية إلى إعادة ترسيم حدود الشرق الأوسط، وتقسيم المنطقة من جديد؟ وهل ستفضي الثورات العربية بمآلاتها المفجعة إلى تهيئة المناخات الملائمة لتنفيذ تلك الرؤى والمقترحات؟

صعوباتها أكثر من فرص تحققها

يرى الدكتور وليد عبد الحي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك الأردنية، أن تلك المقترحات والتصورات مطروحة على مستوى الأكاديميين ومراكز البحوث والدراسات، وهي معروفة ومنشورة.
ويُرجع الدكتور عبد الحي بداية طرح تلك المقترحات والمشاريع إلى ثمانينيات القرن الماضي، حينما ظهرت دراسات لسياسيين إسرائيليين مسؤولين عن التخطيط بعيد المدى في وزارة الخارجية الإسرائيلية، مرورا بكتابات المؤرخ برناد لويس المعروفة في هذا الشأن.  

وأشار عبد الحي في حديثه لـ"عربي21" إلى أن مشروعا قدم بالتفاصيل إلى اجتماع مجلس الناتو في روما سنة 1995، تضمن خرائط جديدة للمنطقة، قدمه نيكولاس بيرنز مندوب أمريكا الدائم في الناتو، نشرته كاملا حينذاك مجلة (joint force quarterly) الناطقة بلسان الجيش الأمريكي، ويومها انسحب المندوب التركي احتجاجا على الخرائط المقدمة. 

وفي بيانه للفكرة الأساسية التي تنطلق منها تلك الدراسات، أوضح عبد الحي أنها تقوم على عدم وجود اتساق بين الحدود السياسية والحدود الاجتماعية في الشرق الأوسط، التي هي سبب الاضطرابات في المنطقة.

وتابع عبد الحي شارحا: "هم يقترحون إعادة رسم حدود المنطقة على نحو تتسق فيه الحدود السياسية مع الاجتماعية والديمغرافية، بما يعني السماح للثقافات الفرعية بالتمثل في كيانات سياسية خاصة بها، كأن يكون دولة مسيحية، ودولة كردية، ودولة شيعية.. وهكذا".

ولفت عبد الحي إلى أن هذه المقترحات والمشاريع تنسجم تماما مع فكرة "الدولة اليهودية" بحيث يصبح شعار يهودية الدولة في إسرائيل منسجما مع هذه التركيبة الجديدة في المنطقة. 

لكن، كيف تتعامل الإدارات الرسمية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية مع هذه المقترحات والتصورات؟

بحسب أستاذ العلوم السياسية الدكتور عبد الحي، فإنه لا يوجد أي دليل على تبني أي من تلك الإدارات لتلك المشاريع المطروحة على مستوى الأكاديميين ومراكز الدراسات المختلفة.

وأشار عبد الحي إلى احتمالية وجود صراع داخل تلك الإدارات بين تيارات تريد تحقيق تصورات ومشاريع مراكز الدراسات، وبين هيئات صنع القرار الممانعة لتطبيق تلك المشاريع تخوفا مما ستجره على المنطقة من تغيرات تحمل معها مشاكل وأزمات وصعوبات لا يمكن السيطرة عليها. 

واستحضر عبد الحي النموذج السوداني في انفصال الجنوب عن الشمال، باعتباره نموذجا مقلقا، لأن الانفصال لم يحل المشاكل المزمنة، بل فاقم المشاكل داخل الإقليم المنفصل الذي يعيش حالة صراع لا تقل عن صراعه مع شمال السودان، وهو ما يرجح حدوث ذلك في مشاريع التقسيم الأخرى المقترحة في التصورات المطروحة.

لكل ذلك، فإن المسألة كما يراها الدكتور عبد الحي ليست متعلقة بكونهم يريدون ذلك أو لا يريدونه، بل متعلقة بموازين القوى الدولية والإقليمية والمحلية، والبنية الديمغرافية للمنطقة، التي لا تسمح بذلك، لوجود صعوبات حقيقية، ومعوقات جدية، تجعل فرص تحقيق تلك المشاريع ضعيفة جدا. 

مشاريع ومخططات وعجز عربي

في السياق ذاته، رأى الباحث والمحلل السياسي العراقي، الدكتور حيدر سعيد أن الحديث عن مشاريع تقسيم المنطقة وإعادة ترسيم حدودها من جديد، يكتنفه قدر كبير من المبالغة، فمع أن تلك المشاريع مطروحة على المستوى الأكاديمي ومراكز البحوث والدراسات، فإنها غير متبناة رسميا من قبل الإدارات الحكومية، سواء في أوروبا أم أمريكا.

واستبعد سعيد في المدى المنظور والمتوسط تنفيذ أي مشروع من مشاريع التقسيم المتحدث عنها؛ففي العراق مثلا يجري الحديث عن تقسيم العراق إلى ثلاث دول، واحدة للشيعة في الجنوب، وأخرى للأكراد في الشمال، وثالثة لعرب السنة في الوسط وغرب العراق، متسائلا: لماذا يشجع الشيعة قيام دولة خاصة بهم في الجنوب وإيران تسيطر على بغداد ومناطق واسعة من العراق؟ 

وتابع سعيد شرحه لـ"عربي21"، قائلا: "ومن هي الدول والقوى التي ستوافق على قيام دولة لعرب السنة، تكون قاعدة وملاذا آمنا لتنظيمات السلفية الجهادية المتشددة؟ أما الأكراد فهم يتمتعون حاليا بإدارة شبه مستقلة في إقليم كردستان، أما قيام دولة كردية مستقلة فثمة ممانعات قوية عليها محليا وإقليميا".

من جانبه اعتبر الأكاديمي المصري، أستاذ الإعلام في جامعة اليرموك الأردنية، الدكتور محمود السماسيري، أن مشاريع تقسيم المنطقة، وإعادة ترسيم حدودها من جديد، لو تهيأت لها الظروف الملائمة فإنه سيصار إلى تنفيذها فورا، فليس بإمكان الدول العربية بعد ما ألم بها أن تعترض سبيل تطبيقها أبدا.

وجوابا عن سؤال "عربي21" حول إفضاء الثورات العربية بمآلاتها الدامية إلى تهيئة المناخات الملائمة لتطبيق تلك المشاريع، أشار السماسيري إلى أن "الثورات العربية هي هبات شعبية، لم تكن تمتلك بنى بديلة لإحلالها مكان الأنظمة التي تمت الثورة عليها، ما مكن قوى الثورة المضادة من الانقضاض عليها مرة أخرى، لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة في بعض الدول، مع تفجر الثورات المسلحة في دول أخرى".

ربما ترغب بعض الدول والقوى في تقسيم المنطقة العربية، وإعادة ترسيم حدودها من جديد، لكن ما يحول دون تحقيق ذلك بحسب الرؤى والتحليلات السابقة، عدم سماح موازين القوى الدولية بذلك، مع صعوبة تطبيقاته على الأرض في ظل تعقيدات وتداخل البنى والمكونات الديمغرافية المختلفة في المنطقة المحلية والإقليمية. 
التعليقات (0)