كتاب عربي 21

الأستاذ.. احتفاء بالرابطة التونسية لحقوق الإنسان

طارق أوشن
1300x600
1300x600
عندما سئل "الخبير الاستراتيجي" المصري اللواء حسام سويلم عن فوز الرباعية التونسية بجائزة نوبل للسلام، أجاب: "معرفهاش بس أكيد ست كويسة. أنا معرفش في الموضوع ده، إنت عارفة تخصصي، بس إذا كانت الست دي قدمت خدمات إنسانية لبلدها تبقى تستاهل".

وعندما حاولت محاورته رولا خرسا أن تصحح له المعلومة بدأت تقلب في أوراقها ولم تجد غير القول: "لا دي مش ست يا افندم، دي أربع اتحادات ساهمت في ثورة الياسمين في تونس". ضعف الطالب والمطلوب...

 جاء في بيان لجنة نوبل النرويجية أن الرباعية الراعية للحوار التونسي صيف 2013،  مُنِحت الجائزة لأنها "أطلقت عملية سياسية بديلة وسلمية في وقت كانت فيه البلاد على شفير حرب أهلية"، ولأنها أتاحت لتونس "إقامة نظام حكم دستوري يضمن الحقوق الأساسية لجميع السكان بدون شروط تتصل بالجنس والأفكار السياسية والمعتقد الديني". المنظمات الأربع هي: الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

يحدث هذا في الوقت الذي تتواصل فيه الحرب على المنظمات الأهلية والنقابية والحقوقية بكثير من البلدان العربية بدواعي مختلفة لعل أهمها "التمويل الأجنبي"، أو يتم تدجينها وإدخالها لبيت الطاعة السلطوي تسبح داخله بحمد الحاكم ضدا على كل الأعراف والتقاليد وكل شروط الاستقلالية والحياد الإيجابي. ولقد رأينا كيف تهاوت "رموز" كانت تصول وتجول في فضاء العمل المجتمعي مغردة خارج سرب المطبلين للسلطة والحكومات، وصارت أصواتها تنعق بتعبيرات وتفسيرات محت بها كل رصيد نضالي كان لها لدى العامة والخاصة على حد سواء.

من هنا تأتي أهمية تتويج المنظمات التونسية الأربع، حيث إنه يدق ناقوس خطر حقيقي إنذار الشعوب والطبقة السياسية والسلطة على أن قتل المبادرة الحقوقية والأهلية والقضاء على استقلاليتها رديف إفراغ للساحة من دعائم الاستقرار الحقيقي التي يمكن اللجوء إليها حال انسداد الآفاق وصعوبة التوافق بين الفاعلين السياسيين بالشكل الذي يرهن حاضر ومستقبل الأوطان. 

وهي فرصة لنا لنحكي قصة واحدة من المنظمات المتوجة كما قدمها فيلم "الأستاذ" لمخرجه محمود بن محمود الذي كان آخر فيلم صوره في عهد نظام زين العابدين بن علي.

خليل الخلصاوي أستاذ  جامعي مختص في القانون الدستوري معروف بارتباطاته مع النظام البورقيبي والحزب الدستوري الحاكم. لا يألو خليل جهدا في الدفاع عن المكتسبات الديمقراطية التي يرى أن نظام بورقيبة قد كرسها في تونس الاستقلال. بل إنه يسبر أغوار التاريخ البعيد ليعتبر أن تونس توفرت على أول دستور لها منذ 5000 سنة مع دستور قرطاج. الأستاذ  خليل نموذج للمثقف السلطوي الذي يسخر ملكاته الخطابية والفكرية لخدمة أجندة السلطة انتظارا لمكافأة  أو ترقية أو منصب رفيع.

يتخذ الشريط من قصة الحب التي تنشأ بين الأستاذ  خليل والطالبة هدى ذريعة للنبش في دواخل النماذج المشكلة للمجتمع التونسي ولكواليس القرار السياسي داخل نظام بورقيبة لفترة نهاية السبعينيات التي لعب خلالها ورقة مواجهة المد الشيوعي داخل دول العالم الثالث المساندة للرأسمالية الغربية.

قرر الرئيس بورقيبة السماح بإنشاء الرابطة التونسية لحقوق الإنسان كأول منظمة حقوقية في المنطقة بشروط أهمها ضمان نسبة عضوية خاصة بحزبه الحاكم داخل هياكلها. كان الهدف تجميليا يسعى لتلميع صورة النظام أمام الدول الغربية الداعمة له. وكانت مهمة خليل الدفاع عن المواقف الرسمية للحزب داخل الرابطة في فترة اتسمت بالتوتر بين الحكومة والنقابات. لقد كان شكل ذلك نوعا من الاختراق الواضح لهياكل منظمة أساس اشتغالها يكمن في الاستقلالية عن الأجهزة الحكومية. لقد زرع النظام اسفينا داخلها لتفجيرها إن تطلب الوضع ذلك، والتوصل بتقارير استخباراتية من داخلها كوسيلة تمكن من السيطرة على قرارها.

بقى خليل مدافعا شرسا عن النظام في مواجهة أنصار اليسار مطبقا تعليمات أسياده. وككل انتهازي كفء فقد تفوق في المهمة واستطاع إفشال كل مساعي تطوير أداء المنظمة. وبين الانتهازية والإيمان أو الاعتقاد بصدقية "مبادئه" تتهاوى شخصية خليل عندما تعتقل عشيقته الطالبة الجامعية بتهمة مرافقة صحفيين إيطاليين دخلا البلد بدعوى تصوير فيلم عن واقع الأمازيع بالجنوب التونسي، في وقت كان فيه اهتمامهما منصبا على ما يعتمل داخل مناجم الحوض المنجمي من إضرابات واعتصامات.

لقد كانت رحلة بحثه عن الطالبة هدى بالجنوب التونسي مناسبة ليقترب خليل الخلصاوي من معاناة عمال المناجم ومن التهميش الذي يطال منطقة الجنوب عموما لصالح مدن الشمال. وكانت لحظات المحاكمة والسجن الاحتياطي مناسبة للاقتراب أكثر من مظاهر الفساد الإداري الذي ينخر عصب الدولة وأجهزتها الأمنية. لكن خليل ظل مؤمنا بالجمهورية إلى أن نطقها القاضي حاسمة : أربع سنوات سجنا للمتهمين الثلاثة. هنا صرخ داخل المحكمة : تونس ليست جمهورية موز في إشارة على تمرده على الأسياد وهو المرشح لتولي وزارة لحقوق الإنسان كان فكر الرئيس بورقيبة في إنشائها في لحظة دهاء سياسي سابقة لعصرها. لقد أصبح "الأستاذ" خائنا في نظر الحزب عندما صار مناوئا للحكومة من داخل الرابطة التي دخلها بأمر منها.

الخيانة في الشريط سلسلة متتالية لم يسلم منها أي من الشخصيات. فخليل يخون زوجته مع عشيقته، وعشيقته تخونه مع أحد الصحفيين الايطاليين. خليل يخون زملاءه في الرابطة ويكتب تقارير استخباراتية عنهم تتلقفها مليشيات الحزب والدولة ل"تأديبهم"، وخليل ذاته صار متهما بخيانة الحزب/الدولة. لكن الخيانة الكبرى كانت خيانة الوطن، فبورقيبة ونظامه بني على شرعية تاريخية و"نضالية" كان الهدف منها إجلاء المستعمر وإقرار أسس الدولة الوطنية العصرية العادلة. لكن بورقيبة خان العهد وتحول إلى حاكم مستبد أسس لدولة بوليسية أفرزت في الأخير زين العابدين بنعلي وريثا وهو الذي كان مديرا للأمن في الفترة التاريخية التي عالجها الشريط دون الإشارة إلى ذلك من قريب أو بعيد.

بعد تحول خليل الخلصاوي إلى معارض شرس للنظام، نفي إلى الجنوب بعيدا عن العاصمة. وكان أن نفانا المخرج معه إلى هناك لنعيش معه رتابة الحياة في أرض مقفرة خلاء. لقد أبعدنا المخرج عن كل ما كان يعتمل في تونس العاصمة (نهاية 1977 وبداية 1978) حيث كان بن علي يصول ويجول في انتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان. هكذا خان المخرج واجبه في التناول الصادق للمرحلة فصار طرفا في لعبة تخوين النظام السابق تلميعا لصورة النظام المتحكم في زمام الأمور أو على الأقل إنقاذا له من بوثقة المقارنات التي يعيشها. فقد شهدت فترة تصوير الشريط وضعا اجتماعيا متطابقا للمرحلة المطروقة (إضرابات عمال الحوض المنجمي وبداية احتقان اجتماعي وسياسي). وبدأت المقارنات تعقد بين نظامي بنعلي وبورقيبة وكان لابد من قتل رمزية الثاني نهائيا. ولعل في السماح بإنتاج هذا الشريط بل ودعمه من طرف وزارة الثقافة التونسية عنصرا من عناصر الإجابة.

المحصلة أن إضرابات الحوض المنجمي في العام 2008 وبعدها أحداث الجنوب التونسي سنتين بعدها أودت في الأخير إلى "الثورة" على نظامي بنعلي وبورقيبة، وفتحت المجال لانطلاقة جديدة للفعل السياسي التونسي ما فتئت تعرف تراجعات خطيرة تكرست بعودة "رموز" العهد البائد. فالتجمعيون الدستوريون عادوا ومعهم منابرهم الإعلامية "المؤثرة"، والبرقيبيون نفضوا الغبار عن أنفسهم وهم يحظون بدعم كبير من رئيس الدولة الحالي الباجي السبسي. والجناحان يمثلان اليوم القوة الضاربة في حزب نداء تونس، الوريث الشرعي لنظامي بورقيبة وبنعلي، ويحاولان التخلص من الجناح اليساري الذي قد يجد نفسه عما قريب على قارعة الفعل السياسي العام. عزاؤه وجود منظمات حقوقية ونقابية لا يزال مؤثرا في القرار داخلها بشكل يسمح بنوع من التوازن السياسي بين يمين "متطرف" وإسلاميين وبقايا يسار.

صحيح أن تونس فازت بجائزة نوبل. لكن هشاشة تجربتها السياسية وضخامة التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجهها تجعل من "التتويج" مناسبة سانحة لمراجعة فعلية لأسس البناء السياسي مفتوحة على المستقبل. أما الاعتماد على بركات الشيخين (السبسي والغنوشي) المنتميين للماضي فلن يكون إلا فرملة للتطور السياسي بالبلد وإعادة إنتاج السلطة الأبوية كما عاشتها البلاد مع الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

في الواقع العربي الحالي، حيث انتشرت المجالس القومية لحقوق الإنسان ووزارات المصالحة الوطنية وغيرها،  لم يعد الحكام بدهاء بورقيبة ولا عادت الظروف، حتى يثبت العكس، تسمح بتكرار الحكاية نفسها. لكن كثيرين لا يزالون يقدمون أوراق اعتمادهم للغرب إما دركيين لمواجهة الهجرة السرية ورحلات اللجوء التي لا تنقطع، أو عسكريين واستخباراتيين لمواجهة الإرهاب المتنامي، أو دعاة سلام لحماية أمن إسرائيل. والمقابل، إطلاق أيديهم لقمع حركات الاحتجاج الجماهيرية أو حركية المجتمع المدني أو مبادرة الفاعل السياسي المستقل، وهم ينسون أنهم بذلك إنما يغلقون فجوات تنفيس قد تتسلل منها روح الاعتدال والتداول السلمي للسلطة باعتبارهما الضمانة الوحيدة لاستمرار العيش المشترك على هذه البقعة المسماة وطنا عربيا.

الخبير حسام اسويلم أنهى كل نقاش وأفحم الجميع حين كشف الحقيقة وهو يعلنها من واقع خبرته الطويلة: "لا لا، هتقوليلي ثورة الياسمين والثورة الملونة واللوتس عندنا في مصر، كل دول تبع أمريكا، واتربوا في فريدوم هاوس عشان يكونوا عيون أمريكا علينا ويثيروا الاضطرابات". 
التعليقات (0)