قضايا وآراء

طبيب أطفال حلب وإخوانه.. وعجلت إليك رب لترضى

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
 في شدة من الحزن تأخذنا وأيدينا مكبلة بأشد من السلاسل والحديد، فإذا عقولنا في مخاض عسير بين مجازر وسفك للدماء في حلب الشهباء، وبين تثبت وتأقد في الفكر ونحن نشاهد طبيب الأطفال "محمد معاذ" في ذلك المقطع المصور الذي بثته القناة- 4 البريطانية، نشاهده وهو في أرقى التزامه الطبي في لباسه وتألق مظهره، يمشي في خطى سريعة نحو مهامه الإنسانية التي كان يقضي فيها ليله في قسم الطوارئ في مستشفى القدس، وفي نهاره في مستشفى الأطفال في حلب. ترك عائلته في تركيا، وأصر على البقاء يعالج المرضى والمصابين من وحشية نظام مجرم فاجر دموي.
 
ويزداد المشهد تمايزا وأنت تراه في لحظات بسيطة وهو يرفع جزءا من سرواله الطبي الأخضر من ناحية قدميه الكريمتين حتى يحافظ على عدم انتقال الجراثيم من أرضية المستشفى إلى ملابسه، وفي الوقت نفسه يرتب نفسه حتى لا يعيقه نزول سرواله إلى قدميه عن سرعة حركته.
 
وكلما عايشت المشهد من قبل ومن بعد وفاته (ندعو له وإخوانه أن يقبلهم الله عنده في الشهداء والأبرار)، وتأبى "وعجلت إليك رب لترضى" في الآية الكريمة (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى?) - طه 84 - إلا أن ترتسم في الآفاق. هذه الآية تمثل تأدب موسى عليه السلام مع ربه عندما سأله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى؟) - طه 83.. تعجل موسى عليه السلام قومه لموعد ملاقاة ربه، وكله بتقدير من الله عز وجل، فكان رد موسى عليه السلام لربه، أن قومه في أثره قريبون، ولكنه تعجل شوقا إليه - وهو القريب إلى نفسه - ملتزما بما أمره به ليحضر في الميقات المحدد. وهكذا يأخذها أهل العلم أن "وعجلت إليك رب لترضى" تعلمنا المبادرة الحثيثة للعبادة وعمل الخيرات قبل فوات الأوان، وليس التعجل في ذاتية عمل العبادات نفسها.
 
هكذا - ولا نزكي أحدا على الله سبحانه - استشعرنا مما رأينا ومما شهد له إخوان الطبيب معاذ، وكيف رأيناه كذلك حثيث الخطى ملما بكل جوانب الجاهزية لعمله من لبس ومظهر، في مشهد تكاملي مع كفاءته الطبية المرموقة في طب الأطفال.
 
ابن حلب الزكية بدماء شهدائها، ذلك الطبيب النطاسي المعطاء هو وإخوانه، مثال ليس لكل من يمارس الطب فقط، بل لمن ينوي دراسة الطب وعلومه أيضا، حتى يدقق في أهليته لما هو مقبل عليه. إنه مثال لمن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفي أشد الأوقات وأحلكها يعطي وقته وجهده، بل يقدم روحه فداء للآخرين.
 
لقد تعلمنا أن العمل الصالح لوجه الله عبادة، وقد رأيناه - والله أعلم - متمثلا في الطبيب معاذ وإخوانه. لقد كان - رحمه الله - مثالا للإنسانية والتواضع والمودة والرحمة. كان يدفع بنفسه أسرة المرضى وينزل بهم لأقبية المشفى الذي يعمل فيه اجتهادا منه ومن إخوته ليبعدوا حاضنات الأطفال الرضع عن القصف الروسي الوحشي وآلة النظام الوحشية الدموية.
 
وقد وصفت ميريلا حديب، الطبيب معاذ، وهي المتحدثة باسم "مكتب منظمة أطباء بلا حدود في بيروت" الذي يقدم دعما ماليا لمستشفى القدس الذي يعمل فيه، قائلة: "إن الطبيب معاذ كان مندفعا جدا، واختار المجازفة بحياته لمساعدة سكان حلب، رافضا مغادرة مدينة حلب".
 
 هنا تكون الإنسانية والمهنية والإيثار على المحك، بل إن الأسمى والأعز والأكرم هي البراءة لله ورسوله، كيف لا؟ وآية البراءة في سورة “براءة” أو “التوبة” تؤسس لعقيدة الولاء والبراء (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) - التوبة 24.
 
الطبيب معاذ وإخوانه - الذين لحقوه والذين لم يلحقوا به بعد-  يستبشرون بنعمة من الله وفضل، قد رأوا بأم أعينهم إزهاق الأرواح بأعتى آلات نظام يحكم بالوحشية الدموية على مرأى ومسمع من العالم بجميع أطيافه، وقد أيقن معاذ وإخوانه أنه لا مناط لتحريرهم من الظلم والفساد وازدواجية المعايير الدولية إلا بتركهم كل تجارة يحبونها ومساكن يرضونها وكل زينة الحياة الدنيا لله وحده سبحانه، وقد أدركوا كذلك أنه عندما تخص الإنسانية بلادهم، فإنك ترى كلا يلهث وراء مصلحته، ولكن وفق مصلحة عليا تقود لتفتيت المفتت وتجزئة المجزأ من أنقاض "سايكس بيكو"، فتعزز الصهيونية بجميع أشكالها، وتغرس الطائفية المقيتة بين أبناء الشعوب الواحدة في المصير المشترك.
 
أهلنا في حلب - كما في كل سوريا - يربطنا بهم رابط لا انفصام له، ماذا فعلنا لها؟ ولا بد لكل منا أن يسأل نفسه: هل تغير المشهد كثيرا بين ما حدث في حلب ويحدث في سوريا، وبين ما حدث في فلسطين وما فعلته عصابات الهاغاناه التي تأسست في عام 1921 في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين، والتي كان من رموزها المجرمون الإرهابيون الهالكون في الدنيا والآخرة، إسحاق رابين وآرئيل شارون ورحبعام زئيفي؟
 
اليوم نتذكر دير ياسين - لا حصرا -  ونتذكر 360 ضحية (نحتسبهم عند الله) على أيدي عصابتي آرغون وشتيرن اللتين انبثقتا - وليس انشقتا كما يؤرخون لذلك - عن العصابة الإرهابية المجرمة الهاغاناه. ما الفرق بين هؤلاء وبشار، ومن في جوقتهم، والدب وأعوانهم في الشرق والغرب، والصفوية الحاقدة التي تطلق دعوات في قنواتها الفضائيه لتجنيد الأطفال للدفاع عما يسمونه “أضرحة مقدسة” في سوريا والعراق؟
 
الطبيب معاذ - رحمه الله - وإخوانه ليس كل منهم مثالا في مهنته للطبيب فقط، بل وللممرض والصيدلي وفني الأشعة والتخدير.. أيضا.
 
الطبيب معاذ - رحمه الله - وإخوانه أمثلة يحتذى بها في كل مهنة .. رحم الله الطبيب محمد معاذ وإخوانه، وأجزل الله في العطاء لوالديه ومن قاموا على تربيتهم في مدارسهم منذ نعومة أظفارهم، ونسأل الله عز وجل أن يعوض أهليهم وذويهم خيرا في الدنيا والآخرة.. اللهم آمين.
 
بالطبع الطبيب محمد معاذ وإخوانه لم تتكون شخصياتهم وتربيتهم فجأة، بل إنك ترى - مثلا في الطبيب معاذ - سنوات تلك التربية واضحة في معالم وجهه، في تواضعه، في مودته وفي رحمته بمرضاه، في التزامه وتضحيته في ليله ونهاره.
 
ندعو الله عز وجل أن يكون أطباؤنا وكل أصحاب المهن ممن يحذون حذو الطبيب محمد معاذ؛ فيربون أجيال الغد التي تقود شعوبها إلى الحرية بكل تفان، لترفع الظلم والبغي والفساد من الأرض.
 
اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، في كل من ظلمنا وأزهق أرواح أهلنا وهتك أعراضنا وفتت وحدة أمتنا.. اللهم آمين.
1
التعليقات (1)
محمدأحمدمصطفي
الثلاثاء، 03-05-2016 09:53 ص
إنالله وإناإليه راجعون