قضايا وآراء

الاصطفاف الاقتصادي

هاني بشر
1300x600
1300x600
تبني معظم الأحزاب في العالم برامجها الانتخابية التنافسية على أسس اقتصادية. ويكون مدى التقدم والرخاء الاقتصادي معيارا حاكما أساسيا على فترة وجودها في السلطة وإمكانية إعادة انتخابها من عدمه. وللأسف أن الأمر مختلف في معظم الدول العربية الذي تدور التجربة الحزبية المعاصرة فيه حول أسباب أيدولوجية وفكرية تأتي في المقدمة ويأتي الاهتمام بالبرامج الاقتصادية في المؤخرة. بخلاف الحال مثلا في دولة مثل تركيا وتجربة ملهمة مثل تجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم، حتى قبل التوترات السياسة مع عدد من الدول العربية التي خلفتها الثوارت، فقد كان التركيز لدى معظم العرب على النجاح السياسي والتكتيكي والإيدلوجي، ولا يزال، طاغيا على تركيزهم على النجاح الاقتصادي وأساليبه. وكما هو معروف فإن برنامج العدالة والتنمية التركي الذي قدم نفسه للأتراك به منذ نحو خمسة عشر عاما وحتى الآن اقتصادي بحت، ثم تأتي أية اعتبارات فكرية أو ايدولوجية في المؤخرة. حتى أن هذه الأخيرة تدور وجودا وعدما مع المسألة الاقتصادية.

وقد رأينا كيف كان الاقتصاد حاكما في علاقة تركيا بروسيا وغيرها من الدول وتراجعت كثير من الشعارات الإيدولوجية. وهو الأمر الذي يحدث في العديد من الدول المحترمة التي تنحي فيها الأحزاب خلافاتها السياسية القائمة في حال تعرض الاقتصاد لخطر ما لإفساح المجال أمام نوع من الاصطفاف الاقتصادي لإنقاذ البلاد. وذلك لأن سوء الأحوال الاقتصادية خطر يهدد الجميع ولا يستثني أحدا. والعكس صحيح أيضا. فتحسن الأحوال الاقتصادية يمهد التربة الوطنية للمنافسة السياسية على أسس سليمة وفي مناخ صحي. وحين خاطب الله تعالى قريشا في القرآن الكريم قال لهم بوضوح: (فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). في إشارة للأمن الاقتصادي والأمان المجتمعي. 

إن البيئة السياسية الحرة هي مفتاح مهم للأمن الاقتصادي، لكن يبقى مفتاحا ومدخلا في النهاية وليس بيت القصيد أو منتهى الأمر، لنصل إلى التفاصيل الاقتصادية التي يكمن فيها الشيطان. فمن السياسة يبدأ الكلام عن الاقتصاد ولا ينتهي. وتأجيل الإصلاحات السياسية لحين تحسن الأوضاع الاقتصادية أفضى إلى انهيار تجارب اقتصادية كانت واعدة مثل التجربة العراقية مثلا في الثمانينيات. لكن ما يهمنا في هذا المقام هو الشكل التنافسي للبرامج الحزبية والتحالفات داخل الدول العربية. ومنها مصر على سبيل المثال التي ذكرها تقريران مهمان مؤخرا، أحدهما في مجلة الإيكنوميست البريطانية والثاني في مؤسسة بلومبرغ الاقتصادية الشهيرة وتحدثا عن أزمة اقتصادية مستفحلة تجاوزت مستوى مشاكل السطح إلى الهيكل والعظام. وهذا إن دل على شئ فإنه يدل على منحنى التصاعد الكارثي في الاقتصاد المصري. وقد يصل هذا المنحنى لمستوى خطير جدا أو انفجار. ساعتها لن ينفع مع الجماهير الغاضية والشارع الثائر الحديث عن حلول سياسية لأن الأمر سيكون قد تجاوز هذه المشكلات. 

إن الثورة المصرية رفعت شعار "خبر، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية" وكانت واضحة جدا في انحيازاتها وأولوياتها. وكذلك كان الحال في الثورة التونسية التي صدحت فيه الجماهير الغاضبة: "خبز وماء وبن علي لا". وبالتالي يجب أن تبقى البرامج الاقتصادية حاضرة دائما وخصوصا تلك التي تنحاز للفئات المحرومة والأكثر فقرا. وهناك موازنة دقيقة يحتاجها أي اقتصادي للموائمة بين العلاقات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولي وحقوق الفقراء الاقتصادية. وهو تحدي وواجب على المتصدرين للمشهد السياسي أن يخوضوه ليقدموا برامج اقتصادية وحلولا، حتى لو لم يصلوا إلى السلطة يفرضوها شعبيا على من بيده السلطة أيا كان بحيث ينتقل الأمر من مربع البرامج الحزبية إلى المطالب الجماهرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وليس الأمر مرهونا كما يردد البعض بالموافقة على شروط صندوق النقد الدولي، كما ليس مرهونا برفضها لأسباب إيدولوجية، وإنما في إيجاد حلول مبتكرة تناسب ظروف الاقتصاد المحلي. 

يذكر مارك بليث في كتابه "التقشف، تاريخ فكرة خطرة" أن فكرة التقشف التي تدعو لها بعض الأنظمة هذه الأيام فكرة سيئة لم ينتج عنها سوى ازدياد الأغنياء غنى وتحمل الفقراء فاتورة السياسات الاقتصادية السيئة للسياسيين. وضرب مثلا بأيسلندا عام 2007 وفي أوج الأزمة المالية العالمية التي اتخذت قرارا جريئا، بالمخالفة لنصائح صندوق النقد الدولي، بأن سمحت لمصارفها أن تفلس وخفضت قيمة عملتها وفرضت ضوابط على رأس المال وعززت من تدابير الرعاية. وكانت النتيجة أفضل بكثير من جمهورية أيرلندا التي اتبعت نصائح الصندوق بأن زادت الضرائب على العاملين في القطاع الحكومة وحاولت إنقاذ مصارفها بضخ الأموال فيها على حساب تقليص برامج الرعاية الاجتماعية ودعم المواطنين. 
0
التعليقات (0)