قضايا وآراء

نظرية الهوامش

1300x600
في التحليل السياسي، ثمة من يعتمد على استخدام التعميمات والمسلمات والقوالب الجاهزة في حكمه على مختلف الظواهر والأحداث، وهذا ما يجعل جملة النتائج والمخرجات متشابهة في أغلب الأحيان. فطالما تتم المعالجة العقلية بالنسق ذاته في كل مرة وبالمنهجية ذاتها في التفكير، وبالمعلومات المستدعاة ذهنيا ذاتها، فإن النتائج غالبا لن تختلف، وستكون مصبوغة بالمفردات المعتمدة ذاتها على المسلمات والتعميمات والأحكام المسبقة. وعادة لا تجد صعوبة في الوصول إلى النتائج الرتيبة والمتوقعة، والتفسيرات التقليدية في مثل هذا النوع من التحليل، فالمقدمات نفسها ستُعطي النتائج نفسها، إذا مرت بقوالب وطرائق التفكير نفسها.

يمكن الزعم بأن السياسة تتشكل فيها أطر عامة واتجاهات معينة وسياقات غالبة وتوجهات سائدة، لكن من الصعب الحديث عن مُطْلقات ومُسلَّمات وقوالب جامدة إلا في نطاقات ضيقة من فضاءات السياسة الرحبة، في ظل البراجماتية الطاغية على معظم السلوك السياسي المعاصر.

وللتركيز أكثر، يمكن تناول الدور المنوط بالأطراف الدولية المنعوتة "بالأدوات" في ميدان العلاقات الدولية، حيث يختزل البعض دور هذه الأطراف باعتبارها كيانات تابعة لإحدى الدول الكبرى والمؤثرة على المسرح الدولي؛ تؤدي لديها دورا وظيفيا مصلحيا محددا. هذا النوع من الدول التابعة، وإن كان موجودا، ولا يكاد يتحرك في الفضاء الدولي إلا بما يتناسب مع مقاسات الدولة المتبوعة، إلا أن الواقع لا يمكن حصره في هذه الصورة الاختزالية، والتسليم بكون هذه الدول ليست إلا أدوات في أيدي الكبار.

عمليا؛ مهما بلغت درجة التبعية لهذه الكيانات ومهما تحولت إلى أدوات، فإن ثمة هوامش متاحة يمكن لهذه الكيانات التحرك خلالها والنفاذ عبرها، بعيدا عن سطوة الكبار وهيمنتهم، أو بما لا يتعارض جوهريا مع مصالحهم وتوجهاتهم، وليس شرطا بالتصادم مع رغباتهم؛ بقدر ما هو مرتبط بالقدرة على الدوران خارج فلكهم، والمناورة في الهوامش المتاحة والمسموح بها أو المسكوت عنها.

هذه الهوامش تتسع وتضيق بحسب ما تتمتع به هذه الدولة التابعة من رغبة لتأدية أدوار ذاتية وطموح نسبي، وامتلاك القليل من الإرادة السياسية وقدرة على المناورة. وهذه العوامل مرتبطة بشكل كبير بالقيادة السياسية أكثر من ارتباطها بالمقدرات والإمكانات المادية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذه الهوامش تتسع وتضيق أيضا بحسب المساحات المسموح بها، أو المسكوت عنها من قبل الدولة المتبوعة؛ ومجموعة القيم والسياسات والمصالح التي تتحرك وفقها.

خلاصة القول، إن التحليل الجاد والحقيقي هو الذي يبحث عن الأسباب والدوافع الحقيقية لحركة الدول وسلوكها السياسي، والمرتبطة بجملة واسعة من المعطيات والمتغيرات وتقاطعات المصالح، وهو الذي يرصد بشكل دقيق مساحة الهوامش المتاحة، بعيدا عن الاعتماد على التحليلات المقولبة والمختزلة، التي تعتمد على جملة الثوابت والمسلمات. فالواقع السياسي أكثر تعقيدا وتشابكا من ذلك بكثير، لذلك من المهم البحث في ما يمكن تسميته "بنظرية الهوامش"، لما تمنحه من اتساع للرؤية، وواقعية وعمق للتحليل.