قضايا وآراء

الوعي الرقمي واختراق القبضة الأمنية

1300x600
يتجدد الجدل كل عام وتحديدا بمناسبة شهر رمضان؛ حول المنتوج الدرامي الوطني، الذي تقدمه قنوات العالم العربي المتلفزة حكومية وخاصة، على المشاهدين العرب. وتصدرت المناقشات الصاخبة، صفحات الجرائد ومنصات الفضاءات الاجتماعية، وداخل الجلسات العائلية، حتى وصلت أماكن العمل المؤسساتية. وباتت الأسئلة الأهم عن الجودة والاحترافية والمضمون؛ هي محل النقاش المحتدم، والذي يطرح إشكالية جمهور يبحث عن صورة تشبهه في الشاشة التي يساهم في تمويلها، وتشبع نهمه لمشاهدة أعمال تتحقق فيها تلك المعادلة الناجحة بين الأثر الترفيهي والمنفعة "البيداغوجية" التربوية، والقيمية، والرقي الفني.

دراما رمضان:

الدراما المتلفزة في العالم العربي لها خصوصية: بنيتها السردية تعتمد غالبا على 30 حلقة، أو أجزاء متوالية، ومن المعروف أنه لا بد من هيمنة الصيغة الاجتماعية على معظم منتجاتها، واعتمادها على الحوار كعنصر قوة وجذب للمشاهدين؛ يمثل أكثر أهمية، من السيناريو والبناء المحكم، والحبكة الدرامية، من دون وجود اختلافات جذرية، بين الدراما المصرية، والسورية، والخليجية.. إلخ.

بالرغم من الانطباع السائد، لكثير من المواقف المنتقدة للمادة الدرامية الرمضانية في التلفزيونات العربية، وعلى رأسها في مصر، إلا أن إجماعا واسعا يؤكد أن مطلب الجودة الفنية والإبداعية في المضامين والاختيارات يظل العنصر الغائب المشترك بينها جميعا، واعتمادها الأساسي على شهر رمضان كموسم لذروة المشاهدة والعرض.

دأب المشاهد للقنوات التلفزيونية العربية على متابعة موسم سنوي خاص تبث فيه أبرز الأعمال الدرامية، يتزامن مع شهر رمضان، بحيث بات مصطلح "دراما رمضان" جزءا ثابتا في الخريطة البرامجية السنوية. وأصبحت علامة تتميز بها الدراما العربية الوحيدة، على مستوى العالم، بتخصيصها بإنتاج تحشد له طوال العام، لعرضه في شهر تعبد عقائدي (رمضان) لدى المسلمين، وينتظر تلك العروض الملايين من جموع الشعوب العربية، من العام للعام، حول العالم، على خلاف ما كان هو معهود قديما.

ولكن تسارع الأحداث السياسية الساخنة؛ التي تعيشها المنطقة العربية، أدت إلى أن يدير الكثير من الجماهير العريضة ظهورهم للقنوات الإخبارية، والبرامج الجادة، وينكبون على مشاهدة المسلسلات وبرامج التسلية المتعددة، وإن كانت لا تشبع رغباتهم الحقيقية في التمتع بفن حقيقي هادف.

مونديال المسلسلات:

مهما كانت أهمية الحدث السياسي، يبقى الموسم الرمضاني أشبه بمونديال كرة القدم، حيث يطغى الموسم على أي حدث مهما علا شأنه. وتلعب الناحية الاقتصادية، وقوانين السوق، وعائدات الإعلانات دورا في ذلك، بحيث يعتبر الموسم مربحا جدا بالنسبة لها؛ لأن جاذبية واعتياد الجمهور على مشاهدة المسلسلات الدرامية هي المسيطرة خلال شهر رمضان، حتى صار يُقال إن دور السينما تغلق أبوابها في رمضان. ولعل ذلك هو السبب الأساس للسمات المذكورة؛ لأن الرهان في رمضان يكون دائما على تقديم دراما قادرة على الصمود ثلاثين حلقة ممتدة، وتزيد، تربط المشاهد بالشاشة.

وهكذا، ارتفعت وتيرة الإنتاج الرمضاني خلال العقود الثلاثة الماضية بشكل غير مسبوق، تقنيا، وإنتاجيا، وخرج من حيز الإنتاج الحكومي إلى القطاع الخاص. ومع زيادة القنوات والشبكات الخاصة، زاد الطلب على المسلسلات، وتكاثرت شركات الإنتاج والعروض، حتى صار الموسم الرمضاني هو "الجوكر" في الإنتاج والتوزيع والمشاهدة، للدراما العربية المتلفزة حول العالم.

عملاق البث العنكبوتي:

على الرغم من الانتشار الواسع للدراما التلفزيونية، بدا للكافة أن لاعبا جديدا في السوق بدأ يفرض سلطته على المعروض في السنوات الأخيرة، وهو الإنترنت، كوسيط عرض أقل إزعاجا من الشاشات، وأكثر تحكما في الكم الإعلاني المعروض في الفواصل، وحركة المعروض ووقته.

والأهم من ذلك كله، ظهور أجيال جديدة لا تمتلك أي "نوستالجيا" إرث عاطفي؛ تربطها بشاشة التلفاز، بل تبحث عن بديل أكثر ألفة، وتداولا. من المؤكد، أن الموسم يشهد نسب مشاهدة مضاعفة كل عام، ومقارنة ببقية العام، إلا أن نسب المشاهدة هذه لم تعد محصورة في التلفاز، بل انتقلت إلى اللاعب الجديد المؤثر بامتياز: توجد عشرات مواقع القرصنة المجانية التي تعرض المسلسل بعد ساعات من قليلة من عرضه على الشاشات، ولفتت نسب المشاهدة المرتفعة عبر الإنترنت؛ المنتجين في السنوات الأخيرة، وبدأوا يعون أن ذلك المدخل الجديد يقتطع من نسب مشاهدتهم، وبالتالي من رأس المال الإعلاني الموجه إلى منتجاتهم.

فبدأ المنتجون بطرح الحلقات الجديدة أولا بأول في "يوتيوب"، بعد عرضها على الشاشة مباشرة، وبدأت مرحلة إبداع جديدة؛ لأن الواقع الافتراضي قادر على تغيير الواقع السياسي، وتغيير الثابت الدرامي وقوانينه، وهو ما بدأ يتحقق شيئا فشيئا، علما أنه في العام نفسه، ودخلت العديد من المواقع للمنافسة في كم المشاهدة، متأثرا بالرواج العربي لـ"نيتفليكس" (شركة تقوم بإنتاج الأفلام والبرامج التلفزيونية، وتوزيع الفيديو عبر الإنترنت).

58 مليون ساعة على "فيسبوك":

ذكرت صحيفة "مت شبيجل" في تقرير استقصائي مفصل؛ أن الجمهور العربي يقضي ما يقرب من 58 مليون ساعة على "فيسبوك" خلال شهر رمضان، وترتفع نسب مشاهدة مقاطع الفيديو على موقع "يوتيوب" بنسب خرافية. وبحسب التقرير، تتضاعف أرباح شركات "فيسبوك"، و"تويتر"، و"إنستجرام"، بالإضافة إلى شركة "جوجل" التي تمتلك "موقع يوتيوب"، خلال شهر رمضان.

وأضاف "رامز شحادة"، المدير الإداري لفيسبوك لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قوله: "يستخدم الناس في الشرق الأوسط فيسبوك بشكل أكثر في الليل خلال شهر رمضان، وأكثر أوقات التوقف قبل الإفطار، واستراحة العشاء، وقبل السحور".

وفي تقرير آخر لموقع دويتشه فيله الألماني، فإن الشعوب العربية، تقضي ما يقرب من مليوني ساعة يوميا على منصة "فيسبوك" موقع التواصل الاجتماعي الأشهر خلال شهر رمضان، ووفقا لشركة "جوجل" العالمية، يعتبر شهر رمضان موسم الذروة للإعلانات في منطقة الشرق الأوسط، وتحصل الشركة خلاله على زيادة بنسبة 151 في المئة في عدد المشاهدين على موقع يوتيوب. وأوضح التقرير أيضا، أن شركة "جوجل" بدأت الاحتفال بإيرادات إعلاناتها خلال شهر رمضان، لافتة إلى أن نسب المشاهدة المرتفعة على "يوتيوب" التابع لها تتركز في المقام الأول؛ من مصر والسعودية والإمارات.

إن عمليات البحث المتميزة التي تمت على محرك البحث "جوجل" لهذا العام خلال الأسبوع الأول من شهر رمضان في مصر والعراق والسعودية؛ تضمنت مزيجا مذهلا من البحث عن أوقات الصلاة، وبرامج رمضان التلفزيونية، ومواعيد الأفلام، ونتائج الدوري الإنجليزي الممتاز، وغيرها.

حرية إدارة الإبداع 

من الجدير بالذكر أيضا، أن المؤسسات الإعلامية في رحلة علاقتها التنافسية مع وسائل الاتصال التفاعلية عبر الإنترنت؛ سعت للاستفادة من إمكانات تلك الوسائل وتوظيفها، لذا انطلقت العديد من الفضائيات العربية إلى مواقع التواصل الاجتماعي وتحديدا موقع يوتيوب، لتطلب من الجمهور ما يشبه التكليفات أو المهمات الإعلامية، في محاولات مستمرة للتفاعل مع الجماهير من خلال تلك الوسائل الشيقة، ومحاولة الحفاظ على نسبة المشاهد، بشكل تحفيزي.

من اللافت للانتباه، القفزة العملاقة التي أحدثتها الشبكة العنكبوتية، في الوعي الجمعي العربي. على سبيل المثال؛ يقدم موقع يوتيوب مواد تلفزيونية كلاسيكية لم تعد قنوات التلفزيون المعروفة تبثها، كما أنه يحتوي على مواد تلفزيونية رفعها أفراد الجمهور العام؛ مصحوبة بتعليقاتهم عليها، وأحيانا تعديلاتهم في محتواها، إما لانتقادها، أو لدمجها مع مواد أخرى، وربطها بالأحداث في سياقات مختلفة، وهو ما يعني أن المواد التليفزيونية المتاحة عبر موقع يوتيوب تحمل طابعا إنسانيا واضحا وثريا بالتفاعل مع الجمهور؛ الذي أصبح منتجا للمادة الإعلامية، ولم يعد متلقيا، أو مستخدما لها.

وأعطى ما سبق ميزة كبيرة ومهمة لموقع يوتيوب، وما يشبهه من مواقع نشر ومشاركة مواد الفيديو، والأجدر من ذلك كله، رفع مقص الرقيب، والسماح بمساحة كبيرة من الحريات عبر ضوابط الموقع، في التعبير بشكل كامل عن أفكار منتج المادة، وخاصة في اختراق عالم الصمت السياسي، وحرية التعبير المكبلة في العالم العربي، والتفلت من القبضة الأمنية، أحد الأسباب الرئيسية، في هدم حركات التنوير الممتدة عبر سنوات بلا فائدة ترجي.

ما الهدف من وراء إحكام المخابرات المصرية قبضتها على مصادر الإعلام؟

في تقرير أصدرته، مؤسسة حرية الفكر والتعبير المصرية في أيار/ مايو 2019؛ بعنوان "تحت الحصار.. محاولات جديدة للرقابة على الدراما"، كشفت المؤسسة عن "قيود رقابية جديدة على الدراما الرمضانية"، وكذلك "تدخلات من جهات أخرى غير هيئة الرقابة على المصنفات الفنية في محتواها. وأكدت أن هناك احتكار من مؤسسة واحدة، لإنتاج معظم الأعمال الدرامية، تلاها تدشين تطبيق جديد لعرض الأفلام السينمائية، وكافة الأعمال الفنية، على منصات التواصل الاجتماعي وإغلاق البدائل الأخرى، ثم بعد أقل من يومين على هذه الخطوة يأتي إبرام عقد اتفاق، لاحتكار أرشيف التلفزيون المصري لصالح منصة الكترونية بعينها، تلك المنصة المملوكة لجهاز المخابرات المصرية باتت اليوم الحاكم الناهي، وبالأمر المباشر، ليس في حاضر أدوات الترفيه للمصريين، ومستقبلها، وفقط بل في الماضي الذي كان الملجأ للكثير؛ من الباحثين عن العراقة والأصالة في مواجهة النشاز البصري والسمعي هذه الأيام.

تمتلك شركة "إعلام المصريين" كبرى القنوات الفضائية، وتتحكم من خلالها في فرض شروطها الخاصة للتعاقد على عرض وتوزيع الأعمال التلفزيونية. وبالعودة إلى ملكية هاتين الشركتين (سينرجي وإعلام المصريين) كُشف أنهما تخضعان لسيادة شركة إيجل كابيتال للاستثمارات المالية، التي هي في الأساس عبارة عن صندوق استثمار مباشر مملوك لجهاز المخابرات العامة المصرية؛ الذي يسيطر على معظم القنوات الفضائية والمواقع الصحفية الحالية؛ والتي أثارت حادثة مصادرة صحيفة "الأهالي" قضايا الفساد التي تبعت مديرة الشركة، والتغطية على هذا الملف الذي يقبع في قبضة المخابرات.

سنين ضوئية:

كشفت هذه الإجراءات الاستبدادية، والتي تخطتها العوالم المتقدمة بعدد من السنين الضوئية، وكأننا في العالم العربي نسير إلى الخلف؛ أن ما يحدث هو مخطط واضح لإحكام السيطرة على القوى الناعمة في مصر؛ قلب الأمة العربية النابض وبلد المليون مثقف، بتاريخها الحافل بالحركات التنويرية، والتي ظلت نبراسا لحرية الإبداع، مركز الإشعاع الفكري العربي على مدار قرون، إيمانا منها بالدور المحوري الذي تلعبه في تشكيل الوعي العربي، ومن ثم الاصطفاف على ثوابت الموروث الثقافي العربي الإسلامي.

إن مثل هذه التحركات، وإن كانت تمهد الطريق نحو فرض القبضة الأمنية الغاشمة، وترسيخ أفكار العبودية، والاستسلام لمنظومة فساد "العسكر"، على المدى القصير، إلا أنها وعلى المدى البعيد سيكون لها ارتدادات عكسية، لا يحمد عقباها.