قضايا وآراء

بدايات الثورات المشرقة

1300x600

ليس عجيبا أن يكون المشهد الاحتجاجي احتفاليا بشكل عام. هذا هو الطبيعي في الدول الديمقراطية.. العجيب أن يكون المشهد احتفاليا في دول قمعية مثل تونس ومصر عام 2011 ، والأعجب أن يكون كذلك في 2019 في بلد تحكمه الطوائف كلبنان. كان المشهد كذلك أيضا في بداية ثورات بلدان انتهى بها المطاف إلى حروب أهلية، مثل سوريا واليمن، لكن هناك مآلات مشرقة مثل تونس والسودان. اختار اللبنانيون القياس على النموذج الأفضل، واختارت الأنظمة القياس على الفشل. "من فعل ذلك بسوريا هم أهلها".. يقول ذلك عبد الفتاح السيسي.

ليس غريبا أن يهتف الغاضبون ضد السيسي في لبنان وفي كل بلد عربي يخرج للشارع، من السودان إلى الجزائر والمغرب وتونس. يغضب إعلام السيسي ويقلق، ويحق له ذلك، فالماكينة الإعلامية مصممة على مجابهة المعارضة الداخلية، وشيطنة الآخر الوطني وليس العربي.

 

ليس غريبا أن يهتف الغاضبون ضد السيسي في لبنان وفي كل بلد عربي يخرج للشارع، من السودان إلى الجزائر والمغرب وتونس

ينتاب الثورة المضادة الخوف كلما حدث نجاح مرحلي أو تغيير سلمي ديمقراطي في دول الجوار. من أتى على دبابة وبالسلاح، يهدد الناس بمصير سوريا والعراق، فإذا بالعراق ينتفض ويهتف ويخرج للشارع ويرفض نموذجه هو الأخر.

دائما ما كان لبنان استثناء في كل شيء، حتى ثورته غير المتوقعة وغير التقليدية التي أتت في زمن زعماء طوائف تقليديين ذوي ردود فعل متوقع.. هم يفكرون في الطائفية والحرب، والشعب يهتف للسلام والحرية. هم يفكرون في المآلات الكارثية والحرب، والشعب يستمتع بالبدايات المشرقة. هناك نموذجان للتفكير، واحد يتجه نحو المستقبل، والآخر قابع في الماضي لا يريد أن يبرحه. رفع أحدهم يافطة في المظاهرة تقول: "اليوم الحرب الأهلية انتهت في لبنان".

من الصعب على غير اللبنانيين أن يفهموا التركيبة اللبنانية المعقدة في السياسة والتاريخ والحياة. الصورة الشائعة أن هناك مشهدا لامعا وأن البلد ينعم بأنهار العسل، والحقيقة أن معظم الشعب يفتقد لمقومات أساسية كانتظام الكهرباء التي تقطع عن معظم المناطق لساعات بشكل يومي. ثمة حرية سياسية وفنية وثقافية، ولكن هناك عجزا في الخبز، لذلك الثورة هناك مختلفة عما سبقتها من ثورات في العالم العربي التي حملت مطالبها الحياتية على حصان معارضة الكبت السياسي.

 

الثور في لبنان مختلفة عما سبقتها من ثورات في العالم العربي التي حملت مطالبها الحياتية على حصان معارضة الكبت السياسي

يعرف اللبنانيون جيدا معنى الحرب الأهلية والصراع المسلح، ومع ذلك خرجوا وهتفوا، تماما كما فعل الجزائريون قبلهم وهم يحملون ذكريات ما حدث في العشرية السوداء. نضج الجزائريون في مطالبهم وحراكم، ويبدو أن اللبنانيين نضجوا أيضا.. هم يعرفون السياق الإقليمي القاسي الذي يعيشون فيه ويعرفون مدى التدخل الخارجي في بلادهم والصراع المسلح حولهم. ليس هناك مجال للتنظير والتفلسف على بلد يستنشق الفلسفة في الهواء ويعتبرها من مفردات خطابه اليومي، فأهل بيروت أدرى بشعابها.. درس بيروت الأول أن الخبز ليس أقل من الحرية، وأن الاقتصاد قد يسبق مواءمات السياسة، وأن ذاكرة الحرب والصراع لا تمنع من الغضب إذا بلغت القلوب الحناجر بعد أن خويت البطون. وأهم درس أن شعوبنا العربية عندما تجوع فإنها تثور بتحضر وكرامة، ولا تحتاج دروسا في التنظيم.

ليس في لبنان شعب وجيش.. هناك شعوب وهناك جيوش، وقد حدث أن توحدت الشعوب في مطلب واحد أمام جيوش لا تزال حائرة، بعد أن كان المتوقع أن تندلع شرارة حرب وصراع بسبب اللاجئين السوريين في لبنان، طبقا لما تكرر نشره من أخبار في السنوات الماضية، وهو الأمر الذي غذته بعض الأصوات العنصرية، ومنها من هو في السلطة للأسف، على اعتبار أن السوريين في لبنان هم سبب رئيسي في الأزمة الاقتصادية التي تئن منها البلاد، فإذا بالشعب يقلب الطاولة على الجميع ويعطي درسا في الوعي والفهم لقياداته.