صحافة دولية

مؤرخ بريطاني: لهذا نتذكر اليوم إرث "الملك الحسين"

"جزء مهم من تركته يتمثل في بقاء المملكة على قيد الحياة رغم الفوضى التي تعصف بالمنطقة بشكل دائم"- جيتي

نشر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني مقالا للمؤرخ البريطاني اليهودي، المؤيد للحقوق الفلسطينية، آفي شليم، يسلط فيه الضوء على "إرث الملك الحسين"، عاهل الأردن الراحل (1952- 1999).

 

وانتقد "شليم" تجاهل دولة الاحتلال للذكرى السنوية العشرين لوفاة الملك الحسين، الذي وصفه بـ"صانع السلام"، مستعرضا مسيرته الحافلة، وممتدحا "سلوكه المستنير، وواقعيته، وتوازنه العسكري".

 

وانتقد المؤرخ البريطاني، الذي نشر عام 2007 كتابا عن سيرة العاهل الأردني الراحل، ما وصل إليه حال "مسيرة السلام"، لا سيما مع وجود بنيامين نتنياهو "زعيم حزب الليكود اليميني والمعتنق لعقيدة الصراع الدائم" في سدة الحكم بدولة الاحتلال.

 

ويعتبر آفي شليم من المؤرخين البريطانيين المرموقين، وهو أكاديمي في جامعة أوكسفورد البريطانية، ويكتب وينشط في مجال الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.

وفي ما يأتي نص المقال كاملا، كما ترجمته "عربي21":

 

بعد مرور عشرين عاما على وفاته، سيُذكر الملك الحسين لما بذله من جهود جسورة في سبيل تسوية الصراع العربي الإسرائيلي.


ترغب إسرائيل دائما في أن تظهر على العالم بصورة البلد الصغير المحب للسلام والمحاط من كل الجوانب بالعرب الذي يتربصون بها لافتراسها. إلا أن سجلها الفعلي يتشكل إلى حد كبير من حروب عدوانية وتوسع احتلالي وتعنت دبلوماسي.


في المقابل، وعلى الرغم من العداوة الشديدة على المستوى الشعبي، كان هناك بعض صناع السلام ممن يستحقون الذكر. كان منهم الرئيس المصري السابق أنور السادات، والذي مُنح جائزة نوبل للسلام على معاهدة السلام التي وقعها مع إسرائيل في عام 1979. وكان منهم أيضاً عاهل الأردن الملك حسين، والد الملك الحالي، عبدالله الثاني.


فقدان ذاكرة جمعي


توفي الملك الحسين بالسرطان في السابع من فبراير 1999 عن ثلاثة وستين عاماً. تجاهلت إسرائيل الذكرى السنوية العشرين لوفاته، ولم يكن هناك إعادة تقييم، ولا إشادة ولا تقدير. وبالنظر إلى ما يتمتع به الملك من شعبية لدى الجمهور الإسرائيلي، وأخذاً بالاعتبار أنه كان أفضل صديق عربي لإسرائيل، فقد كان فقدان الذاكرة الجمعي ذلك مخيباً نوعاً ما.


والأهم من ذلك أن الملك الحسين لم يقف وحده كصديق. لقد كان سليل الهاشميين أحفاد النبي محمد، وكان يتميز بسلوكه المستنير تجاه اليهود وبمقاربته المعتدلة تجاه الحركة الصهيونية.


يذكر أن القرن الماضي شهد أربع ممالك هاشمية. في البداية كانت هناك مملكة الحجاز بقيادة الشريف حسين بن علي، وهي المملكة التي لم يطل بها المقام إذ قضى عليها ابن سعود في عام 1925. ثم جاءت المملكة العربية في سوريا بقيادة فيصل، ولم تدم هذه إلا ما يزيد قليلاً على أربعة شهور في عام 1920 إلى أن أخرج الفرنسيون فيصل من دمشق. وكجائزة تعويضية، أحرز البريطانيون له عرشاً في العراق في عام 1921.


حينما كان فيصل ملكاً على العراق، احتضن كافة الأقليات – وخاصة الجالية اليهودية. تذكر والدتي عايدة، والتي تبلغ الآن من العمر خمسة وتسعين عاماً، بوضوح زيارة قام بها الملك فيصل بصحبة كبير الحاخامات إلى مدرستها في بغداد، مدرسة التحالف الإسرائيلي العالمي. انتهت المملكة الهاشمية في العراق في عام 1958 بانقلاب دموي وبإلقاء العائلة الملكية من الشبابيك في بغداد، المدينة التي كان فيها مسقط رأسي.


والبلد الرابع هو المملكة الهاشمية الأردنية التي أسسها ونستون تشيرتشل كإمارة في عام 1921 وما زالت قائمة حتى هذا اليوم. كان الحفاظ على بقاء المملكة الأردنية الهاشمية هو أكبر إنجازات الملك حسين وإرثه الباقي. تمكن الأردن تحت قيادته من تجاوز جميع الأزمات والنجاة من الثورات والعنف والحروب التي ابتليت بها هذه المنطقة التي يكاد يكون عدم الاستقرار مستوطناً فيها.


كان ذلك بقاء في مواجهة تحديات وجودية عسيرة، بما في ذلك ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والتهديد الذي شكلته القومية العربية المتطرفة، والأخطار الناجمة عن دولتين من أعتى وأشرس دول المنطقة: سوريا وإسرائيل.


سلوك مستنير


الجانب الآخر من إرث الملك الحسين هو معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1994. وبالفعل، لو أردت أن أجمل عمل الملك حسين السياسي بأسره في عبارة واحدة، لكانت تلك العبارة هي "صانع السلام". لا يسمح الحيز المتاح لي هنا بتقديم تقييم شامل لإرث الملك حسين. أود بدلاً من ذلك أن أقدم بعض الانطباعات الشخصية عن الرجل والتركيز على جانب واحد من عهده الذي استمر لستة وأربعين عاماً، ألا وهو علاقاته مع إسرائيل.


لم يكن لدى الهاشمين مشكلة مع اليهود، وإنما فقط مع الصهاينة. كان الشريف الحسين بن علي، شريف مكة، يكن احتراماً عظيماً لليهود باعتبارهم "أهل الكتاب"، وأنشأ أولاده ورباهم على ما بات تقليداً عائلياً. كان على استعداد للترحيب باليهود كأفراد في فلسطين ولكن ليس بالسعي الصهيوني للاستيلاء على البلاد. وبالضبط نظراً لأنه رفض الموافقة على وعد بلفور فقد تخلى البريطانيون عن ملك الحجاز وتركوه تحت رحمة منافسه الكبير، ابن سعود.

 

اقرأ أيضا: رئيس سابق للموساد: هكذا يهدد ضم الأغوار استقرار الأردن


وكذلك كان الملك حسين مستنيراً في سلوكه تجاه اليهود كما كان أيضاً قلقاً بسبب تصرف الصهاينة، وخاصة في ما يتعلق بأطماعهم التوسعية. كانت معرفتي بصاحب الجلالة الراحل ضئيلة ولكنني أعجبت به كثيراً. وأكثر ما شدني من خصاله التي تعرفت عليها من خلال تواصلي معه كان تواضعه وإنسانيته، وكان بالإضافة إلى ذلك يتحلى بأرقى المهارات الاجتماعية.


أنا واحد من عدد من الكتاب الذين ألفوا عن حياة صاحب الجلالة الراحل، إلا أن عنوان كتابي "أسد الأردن" كان إلى حد ما قد فرضته علي دار النشر بينغوين بوكس. كان العنوان الأصلي الذي اخترته للكتاب بكل بساطة هو "الملك الحسين عاهل الأردن: حياة في الحرب وفي السلام". إذا أريد لكتاب عن سيرة حياة شخص ما أن ينجح، فلابد أن يكون مؤلف السيرة متمتعاً بدرجة معينة من التعاطف مع صاحب السيرة، إذ من النادر أن تحظى السير المعادية بنصيب جيد من القراءة. في حالتي أنا، لم تبرز هذه المشكلة. بل على العكس، كان الخطر الحقيقي يكمن في انقلابها إلى سيرة من سير القديسين.


ملك الواقعية


من الواضح أن الملك الحسين لم يكن له تحفظ على أن أدون سيرته الذاتية، وكان قد قال مراراً وتكراراً لمصطفى حمارنة، الأكاديمي الأردني الذي شغل لفترة قصيرة منصب سكرتيره الصحفي: "أنا سعيد بأن يؤلف آفي شليم كتاباً عني لأنه يهودي وإسرائيلي، إنه يعرف تاريخ عائلتي، وهو أستاذ في جامعة أكسفورد". تلك كانت مؤهلاتي المفترضة التي مكنتني من تدوين سيرة ملك عربي من سلالة النبي محمد.


حينما قال عني إنني أعرف تاريخ عائلته، كان الحسين في الأغلب يشير إلى كتابي المثير للجدل والذي صدر في عام 1988 بعنوان "تواطؤ عبر نهر الأردن: الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين". وكانت أطروحة هذا الكتاب تقوم على أن الحاكم الهاشمي والوكالة اليهودية توصلا في عام 1947 إلى اتفاق يقسمان بموجبه فلسطين بينهما على حساب الفلسطينيين.


ثم هناك أطروحة إضافية مفادها أن بريطانيا علمت بالاتفاق وأقرته سراً لعداوتها للحركة الوطنية بزعامة الحاج أمين الحسيني. تم حظر دخول هذا الكتاب إلى الأردن وما زال محظوراً حتى يومنا هذا. إلا أن الحسين قرأه ويبدو أنه فهم أن الكتاب لم يكن يُقصد منه الهجوم على جده عبد الله الأول وإنما كان دفاعاً عنه على اعتبار أن عبد الله الأول كان الزعيم العربي الوحيد في عام 1948 الذي لديه تقدير واقعي لميزان القوة العسكري.


كان عبد الله الأول ملك الواقعية، وكذلك كان الحسين بن طلال، الذي شهد في عام 1951 وهو غلام في الخامسة عشرة من عمره اغتيال جده الحبيب على أعتاب المسجد الأقصى في مدينة القدس القديمة. وكان عبدالله الأول قد رتب للقاء سري بعد صلاة الجمعة مباشرة مع مندوبين إسرائيليين هما روفين شيلواح وموشيه ساسون. بمعنى آخر، كان عبد الله الأول لا يزال مستمراً في جهوده لصناعة السلام مع الإسرائيليين حتى اللحظة التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة.


عندما ارتقى إلى العرش في عام 1953، بعيد تخلي والده طلال عن العرش، والذي كان يعاني من مرض، مضى الحسين عن قصد وإدراك على خطا جده ومعلمه. وبالفعل، تجسد في الحسين إرث الهاشميين بما فيه من احترام لليهود، وبما يميزه من براغماتية واعتدال.


التوازن العسكري


وهذا ما يوصلني إلى علاقات الحسين مع إسرائيل. كان العنصر الهام في الأمر هو الواقعية – أي التقدير الحصيف للميزان العسكري، والإدراك بأن العرب لم يكن لديهم أدنى فرصة لهزيمة إسرائيل في ساحة المعركة، فكانت الدبلوماسية هي البديل عن الحرب.


في عام 1996، منحني الحسين مقابلة استمرت ساعتين لصالح "الجدار الحديدي"، كتابي الذي أتحدث فيه عن إسرائيل والعالم العربي. ظل يناديني "يا سيدي"، وكان ذلك بالنسبة لي، وأنا الأكاديمي المتواضع، غريباً وجميلاً في نفس الوقت. والأهم من ذلك أنه كان مدهشاً في صراحته. كانت تلك هي المرة الوحيدة التي تحدث فيها بشكل علني عن اجتماعاته السرية مع المسؤولين الإسرائيليين. نشرت نسخة محررة من تلك المقابلة بعد وفاته في عام 1999.


كانت أعظم المحرمات عند العرب هي التحدث مع العدو، وقد انتهك الحسين من خلال اجتماعه بالإسرائيليين هذا المحرم. سألته لماذا فعل ذلك، فأجاب:


"أياً كانت الأسباب، كان لدينا جار، أناس قريبون منا تاريخياً، دفعتهم الظروف في العالم إلى المجيء إلى منطقتنا. وكانت المعضلة تتمثل في كيفية تجنب الدمار المشترك وكيفية إيجاد طريقة للعيش معاً تارة أخرى وألا نستمر في دفع ثمن مرتفع لم يكن فيه إنصاف لأي من الطرفين. كان غرضي طوال الوقت، ومنذ الستينيات، هو محاولة البحث عما إذا كان يوجد أي سبيل لحل المشكلة.... كان علي أن أستكشف، كان علي أن أعرف ما هو التفكير الذي يدور في فلسطين. لا يوجد مستقبل في الحرب، لا يوجد مستقبل في مزيد من المعاناة للناس، سواء هم أو نحن. ولذا، توجب على المرء أن يعرف. توجب على المرء أن يحطم الحاجز والبدء في حوار سواء أدى إلى نتيجة ما في الحال أم لا. ولكن كان من المهم أن يكون ذلك مباشراً، ودون وسيط، وألا نسمح للاعبين الآخرين بالتلاعب بنا."


وأضاف الحسين إنه، ومن باب الصدفة، كان له صديق يقوم على رعايته الصحية في لندن. كانت تلك إشارة إلى طبيبه الشخصي إيمانويل هيربرت، الذي كان يهودياً وصهيونياً متحمساً. في أحد الأيام، اقترح هيربرت إمكانية ترتيب لقاء مع دبلوماسي إسرائيلي رفيع المستوى، وكان ذلك هو يعقوب هيرزوغ، نجل كبير حاخامات إيرلاندا وكان هو نفسه قد نصب حاخاماً كذلك. وهكذا كانت البداية – في منزل هيربرت في حي سانت جونز وود في لندن.

 

حوار استثنائي


استمرت اللقاءات السرية مع المسؤولين الإسرائيليين من عام 1963 وحتى إبرام معاهدة السلام في عام 1994. يحتوي كتابي حول سيرة الملك حسين جدولاً بالتواريخ وأسماء المشاركين والأماكن التي عقدت فيها تلك اللقاءات. جرت كثير من اللقاءات في لندن، وبعضها كان في عمان، وبعضها في عربة مكيفة (بيت متنقل) في وادي عربة، وبعضها في القارب الملكي في خليج العقبة، وكان أحدها في مقر الموساد إلى الشمال من مدينة تل أبيب.


ولقد وثقت من خلال الأرشيف الشخصي للحاخام هيرزوغ اثنين وأربعين اجتماعاً سرياً، ولربما كانت هناك اجتماعات أخرى غيرها. ما هو مهم هو أن القائمة المنشورة تعطي فكرة مذهلة عن حجم ومدى جدية ذلك الحوار الاستثنائي غير العادي عبر خطوط التماس.


في شهر يونيو/ حزيران من عام 1967، انضم الحسين إلى الرئيس المصري جمال عبدالناصر وإلى سوريا في الحرب ضد إسرائيل. كان ذلك قراراً كارثياً، ولكنه كما أخبرني بنفسه شعر بأنه لم يكن أمامه خيار آخر: فإما أن ينضم إلى القوميين العرب فيما قيل للجماهير إنها "معركة المصير" أو تخوض بلاده حرباً أهلية تنتهي بتمزيقها. خسر الحسين نصف مملكته في الحرب، بما في ذلك جوهرة التاج، مدينة القدس القديمة. فيما بعد، قضى ما بقي من عمره وهو يبذل الجهود تلو الجهود لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

 

اقرأ أيضا: MEE: وثائق بريطانية تكشف خلافا دبلوماسيا حول زيارة ميجر للقدس


من الإيجابيات التي نجمت عن الهزيمة تشكل تحالف جديد بين الملك وعبدالناصر في مواجهة المتشددين السوريين والتوصل إلى قرار مشترك بالاعتماد على الدبلوماسية لاستعادة الأراضي المحتلة. قال عبدالناصر للحسين إن استعادة الضفة الغربية أهم وأكثر إلحاحاً من استعادة مصر لشبه جزيرة سيناء نظراً للعدد الضخم من المدنيين الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية. كما أنه خول الحسين بالتحدث مع العدو بهدف تحقيق هذا الغرض، ولكنه حذره من أن يوقع معاهدة سلام منفصلة.


استؤنف الحوار مع الإسرائيليين بمجرد أن خمدت أصوات المدافع، حيث عرض الملك على إسرائيل سلاماً تاماً مقابل الانسحاب التام، إلا أن تغيراً طرأ على نغمة ومحتوى الحوار. بدأ هيرزوغ يعامل الحسين كما لو كان مدير مدرسة يؤنب تلميذاً مشاغباً لديه. من حيث المحتوى، اقترح الإسرائيليون الاحتفاظ بثلاثين بالمائة من الضفة الغربية بما في ذلك مدينة القدس القديمة، إلا أن الحسين رفض العرض مراراً وتكراراً، مصراً على أنه إما أن يحصل على كل شيء أو لا شيء.


حماية المملكة


على الرغم من الجمود، استمرت المحادثات لسنوات. فلماذا استمر الحسين في الاجتماع بالإسرائيليين رغم عنادهم الدبلوماسي المحسوس ومضيهم قدماً في ضم أراضي الضفة الغربية؟


كان ذلك بهدف حماية ما تبقى من مملكته. فقد ظن أنه لو استمر في اللقاء مع الإسرائيليين، فسيتضاءل احتمال إقدامهم على مهاجمة الضفة الشرقية من مملكته أو على الإطاحة بالنظام الملكي الهاشمي واستبداله بجمهورية فلسطينية. فقد كان ذلك التهديد كامناً في الشعار اليميني "الأردن هو فلسطين"، والذي يقصد منه القول إن الضفة الشرقية هي الدولة الفلسطينية لأن معظم سكانها فلسطينيون، ولذلك فليس ثمة حاجة إلى دولة فلسطينية ثانية في الضفة الغربية.


ولكن الحسين من خلال تحدثه مع العدو تكبد أضراراً جسيمة غير قابلة للإصلاح، حيث أدانه خصومه واتهموه بخيانة القضية العربية.


والحق يقال، لم يحدث أن تنازل الملك حسين في كل محادثاته مع الإسرائيليين عن شبر واحد من الأرض العربية، ولم يكن الزعيم العربي الأول الذي يبرم صفقة سلام منفصلة مع إسرائيل. كان أولهم السادات وتبعه في ذلك الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وفقط بعد أن وقع عرفات اتفاقيات أوسلو المشوبة بعيوب كبيرة مع إسرائيل في سبتمبر من عام 1993 بدأ حسين عملية التفاوض التي أدت إلى توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل في العام التالي.


تعاطف مثير للإعجاب


يتطلب حل النزاع تعاطفاً، وكان تعاطف الحسين مع العدو مثيراً للإعجاب، بل كان معلماً، فقد أخبرني الملك عبدالله الثاني أن والده كان قد أكد عليه مراراً وتكراراً الأهمية الحيوية لفهم وجهة نظر الطرف الآخر، ولإظهار التعاطف، ولمنح الضمانات عندما يتحدث مع الإسرائيليين. وبين له الحسين، أنه بسبب تاريخهم ومعاناتهم، ما فتئ اليهود مسكونين بالأمن، ولذلك يتوجب على المرء أن يضع ذلك في الاعتبار عندما يتفاوض معهم. ولقد سمعت نفس الشيء من عدد من المفاوضين الأردنيين الآخرين، من العسكر ومن الدبلوماسيين على حد سواء.


وجد الحسين في رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين شريكاً حقيقياً على الطريق نحو السلام. كان كلاهما جنديين يعرفان ثمن الحرب، ولذلك تحولا إلى صانعي سلام. كما أنهما وثقا ببعضهما البعض. وكما لاحظ الملك في مقابلته معي، كان كثيراً ما يضع نفسه في موقع رابين، وكان رابين يفعل نفس الشيء، ومن خلال الإنصات والاستماع لبعضهما البعض اكتشفا إنسانية مشتركة.


وكانت شعبية الملك لدى الجمهور الإسرائيلي عاملاً مهماً ساهم في إنجاح المفاوضات، فقد كان الجار العربي المفضل لدى إسرائيل، وقد قيل له ذات مرة على سبيل المزاح، وفي أكثر من مناسبة، إنه إذا فكر في ترشيح نفسه داخل إسرائيل، فسوف يحقق فوزاً ساحقاً.


اعتقد الملك حسين أن المعاهدة التي تفاوض عليها مع رابين كانت منصفة ومتوازنة وأنها حققت المصالح الأساسية للطرفين. فقد أعطت لإسرائيل السلام والتطبيع وضمنت للأردن أمنه وسلامته. تكمن مشكلة المعاهدة في أنها لم تكن مؤسساتية، بل اعتمدت إلى حد كبير، وعلى مستوى عال من الخطورة، على العلاقة الشخصية التي كانت قائمة بين هذين الزعيمين.


وبالتالي كان اغتيال رابين على يد متطرف يهودي كارثياً بالنسبة للحسين، على المستوى الشخصي وعلى المستوى السياسي في نفس الوقت. لقد تحدث بعاطفة جياشة في جنازة رابين داخل المقبرة الوطنية على جبل هيرتزل عن شريكه في رعاية عملية السلام الأردنية الإسرائيلية. وتعهد حينها بأن يستمر "في حمل التركة التي من أجلها سقط صديقي، كما حصل مع جدي في المدينة عندما كنت برفقته وأنا غلام."


دفن السلام


بعد الجنازة، رأت الصحفية رندة حبيب الحسين واقفاً في شرفة فندق الملك داود والدموع تنساب على وجنتيه. سألته عن مشاعره، فأجاب: "لقد جئت إلى القدس الغربية لأول مرة في حياتي لأدفن صديقاً لي." ساد الصمت لبرهة قصيرة، ثم أضاف: "لدي شعور بأنني اليوم، وبطريقة ما، قد دفنت السلام."


كانت تلك كلمات تنبئ بما هو قادم. جاء بعد رابين بنجامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود اليميني والمعتنق لعقيدة الصراع الدائم. وكم هو صارخ الفرق بين ما كان يتمتع به الحسين من نبل وما يكنه نتنياهو من غل وحقد.


بعد أن أنجز مع رابين "سلام الشجعان"، بات الملك الذي كان في صراع مع المرض في مواجهة زعيم إسرائيلي عازم على فرض سلام التنمر عليه. منذ تلك اللحظة والهبوط آخذ في التسارع، وظل نتنياهو عدواً للحسين إلى أن انتهت حياته بشكل مؤسف.


وإذ تمر بنا الذكرى السنوية العشرون لوفاته، فقد تكون تلك لحظة مناسبة لتقييم حياة وإرث الحسين بن طلال. كانت هناك أخطاء تاريخية، ومن أفدحها حرب يونيو/ حزيران لعام 1967، إلا أن الخطايا تمحوها بعض الإنجازات الكبيرة.


لعل جزءاً مهماً من تركته يتمثل في بقاء المملكة الأردنية الهاشمية على قيد الحياة على الرغم من الفوضى والمطبات التي تعصف بالمنطقة بشكل دائم. ويتمثل الجزء الثاني من تركته، وهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأول، في معاهدة السلام مع إسرائيل. لم تكن التسوية الشاملة للصراع العربي الإسرائيلي ضمن إمكانيات الحسين، ولكن ذلك لم يكن بسبب عدم السعي من جانبه.


لا يوجد زعيم واحد جاهد دون توقف أو كلل أو ملل، وبإخلاص منقطع النظير، عن السعي وراء السلام في الشرق الأوسط كما فعل الحسين بن طلال. ولكنه لقي من التقدير أقل بكثير مما يستحق سواء من الإسرائيليين أو من العرب مقابل ما بذله من جهود لحل الصراع. ولربما كان التاريخ أرفق به من كل هؤلاء.