أفكَار

معركة "طوفان الأقصى" تعيد فلسطين والانتقال الديمقراطي إلى الواجهة

إن المتأمل في ما حصل من استهداف مدمر لمسار الربيع العربي في المنطقة من داخله ومن خارجه باستعمال القوة الصلبة حينا والقوة الناعمة أحيانا لا يخلص إلا إلى اندراجه ضمن مخطط استدامة هيمنة الغرب.. فيسبوك
مرة أخرى تعود القضية الفلسطينية للواجهة بعد أن حاولت عبثا الصهيونية العالمية والقوى الدولية الداعمة لها وأدها بكل وسائل الاعتداء والقمع والإرهاب وبكل طرق المكر والخداع والخبث والدهاء السياسي عبر المفاوضات ومزيد المفاوضات والاتفاقيات والتسويات والتطبيع الذي أصبح سلعة رائجة في السنوات الأخيرة.

عادت القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية هذه المرة من بوابة المقاومة عودة نوعية لم يتوقعها الكيان الغاصب وحلفاؤه في المنطقة من خلال  الهجوم المباغت والخاطف والسريع يوم 7 أكتوبر الماضي تحت عنوان  "طوفان الاقصى" الذي سدد الضربات الأكثر إيلاما للكيان الغاصب منذ تأسيسه في عمقه الاستراتيجي وفي قلبه النابض وفي كل مفاصله عسكريا، حيث مرغ أنف جيشه في التراب.. وسياسيا حيث أحدث ارتباكا ورعبا جعله يخبط خبطا عشوائيا واقتصاديا حيث أصبح على حافة الانهيار والإفلاس واجتماعيا حيث بدأ مواطنوه يفقدون الاستقرار ويصرون على الهجرة العكسية .

كما أن طوفان الأقصى سرعان ما تحول إلى طوفان جارف لكل رواسب الأساطير والأكاذيب والتضليل الذي اشتغلت عليه آلة التظليل الإعلامي الصهيوني لطمس الحق الفلسطني لدى الشعوب وتزييف وعييها  حيث عرى الوجه القبيح اللاإنساني للكيان الغاصب ووهنه وهشاشته باستعمال وسائله التدميرية ضد المدنيين العزل للضغط على المقاومة التي تثبت الأرقام أنها تكبده خسائر فادحة يوميا.. وكلما طالت المدة كلما تفاقمت الخسائر وهو أمر لا يقوى على تحمله.

ويزداد الأمر أهمية في ظل الصحوة العارمة لكل شعوب العالم واستنكارها ورفضها لما يحصل ولما يقدمه المنتظم الدولي وقواه الأساسية وبعض الأنظمة العربية من دعم  للكيان الغاصب فيما ما يمارسه من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني.

كما عرى طوفان الأقصى المنظومة الرسمية للغرب من حكومات ونخب فيما يدعيه من مبادىء وقيم وحريات وأعاد الصراع إلى جوهره وعمقه الحضاري وأعاد الحضور الفاعل إلى المنظومات الفكرية الكبرى والعقائد والقيم بعد أن كادت تسود فكرة نهاية الأيديولوجيا لصالح هيمنة الفكر الغربي المادي الرأسمالي  المتصهين.

صمود المقاومة الفلسطينية بكل مكوناتها ووحدتها وتفوقها المعنوي والقيمي والأخلاقي والميداني على الكيان الغاصب والتحامها مع شعبها قد قدم نموذجا لتحرر الإنسان الفلسطيني عموما وفي غزة خصوصا من مكبلات الظلم والاستبداد المحلي الذي تعاني منه جل شعوب المنطقة
والملفت للنظر أن إعادة القضية الفلسطينية للواجهة قد أعاد لها موقعها كبوصلة للأمة وشعوبها  وكمحرار للعلاقة بين الشرق والغرب وأعاد طرح معضلة التحرير والتحرر التي صاحبت القضية منذ بدايتها التي تزامنت مع انهيار الأمة وتفككها وتقطيع الغرب الاستعماري لأوصالها وتجزئتها وزرع الكيان الغاصب في قلبها النابض .

والتحرر هو فعل ذاتي إرادي فردي وجماعي يتم بالتخلص من عناصر الإعاقة والتكبيل والتهميش والعجز. فعل  يسترد به الإنسان دوره في الحياة للقيام برسالته ووظيفته التي وجد من أجلها. أما التحرير فهو فعل موضوعي يستهدف استرداد الحق من معتد ظالم مغتصب لحق غيره والكفاح من أجل الاستقلال والدفاع عن النفس وعن  الكرامة والحرية.

لقد مثل ترتيب الأولوية بين التحرر والتحرير لدى الفلسطينيين ثم  العرب والمسلمين في علاقة بالقضية الفلسطينية إحدى أهم المعضلات التي واجهها الفكر العربي والإسلامي المعاصر تنظيرا وممارسة بين من يعتبر أن الأولوية في تحرر الأمة بكل مكوناتها من الظلم والاستبداد والتبعية للغرب ثم بتحررها  يمكن تحرير فلسطين أي أن تحرير فلسطين يمر حتما بتحرر الأمة. وبين من يعتبر أن القضية الفلسطينية قضية وطنية وتحريرها يعني الفلسطينيين دون غيرهم ولا علاقة لتحرر الأمة بتحرير فلسطين. وقد كان ولا يزال لكل خيار استتباعاته العملية وآثاره الميدانية على مسيرة كفاح الشعب الفلسطيني.

وكما بينت الدروس التاريخية المستخلصة أن المزاوجة بين الخيارين بمرونة وفاعلية تتماشي مع معطيات الواقع الفلسطيني وواقع الأمة العربية والإسلامية هو الخيار الأنسب فكل فعل منهما يكمل الآخر فالكفاح من جل تحرير فلسطين يحرر الأمة، حيث أحدث طوفان الأقصى كما أحدثت الجولات السابقة رجة كبرى في وعي الأمة بكل شعوبها وفي وعي شعوب العالم بما في ذلك الشعب الأمريكي الذي تفتحت عيناه على هول ما يمارسه الكيان الصهيوني من إبادة جماعية والأهم من ذلك تفتحت عيناه على حجم تسلط اللوبي الصهيوني عليه وعلى دولته و قراراتها ومقدراتها.

كما أن صمود المقاومة الفلسطينية بكل مكوناتها ووحدتها وتفوقها المعنوي والقيمي والأخلاقي والميداني على الكيان الغاصب والتحامها مع شعبها قد قدم نموذجا لتحرر الإنسان الفلسطيني عموما وفي غزة خصوصا من مكبلات الظلم والاستبداد المحلي الذي تعاني منه جل شعوب المنطقة والتوحد للقضية على أساس عقيدة نضالية أسمى درجاتها الشهادة والحرص فيها على تحرير فلسطين والأقصى أهم من الحرص على الحياة تحت سلطة الاحتلال.. وقد هز عقل ووجدان كل شعوب العالم وخاصة الشعوب العربية والإسلامية بعنف سيكون له ما بعده للبحث عن إجابة عن الأسئلة التي أرقت وتؤرق الإنسان العربي والمسلم حول حالة الامتهان التي عليها الأمة رغم عددها وعدتها وحالة الخضوع والخنوع التي عليها الأنظمة مما قد يجعل العديد من الكراسى والعروش في مهب رياح  معركة طوفان الأقصى.

أما تحرر الأمة فإنة شرط أساسي  لتحرير فلسطين والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة آخرها ما فعله الناصر صلاح الدين لتحرير بيت المقدس حيث حرر الأمة ووحد شعوبها، لأن قضية فلسطين ليست قضية استعمار عادي حتى وإن كان استيطانيا على شاكلة الاستعمار الفرنسي للجزائر أو استعمار جنوب إفريقيا إنما هو عملية زرع وإحلال لمجموعات من شذاذ الآفاق محل الشعب الأصلي صاحب الأرض والتاريخ المشترك بدعوى "شعب بلا أرض لأرض بلاشعب" التي ابتدعتها الصهيونية ويتبرأ منها كثير من اليهود لأنهم في الشتات هم جزء من شعوب عديدة تختلف في العرق واللون والثقافة وخدعة تجميع الغرب الاستعماري لهم كان ولا يزال لغاية استدامة الهيمنة والسيطرة على الأمة ومقدرتها ومنعها من أي مسعى للنهوض والاستئناف الحضاري من جديد.

كانت بداية سقوط الغرب قيميا وأخلاقيا بسبب تآمره في المنطقة عبر وكلائه وعملائه على كل تجارب الربيع العربي وإسقاطها بكل أساليب المكر والخداع والقوة.. ثم تعمق ذلك السقوط الآن أثناء معركة طوفان الاقصى وإفصاحه عن نظرته لطبيعة الصراع على أنه صراع حضاري غربي مسيحي متصهين ضد العرب والمسلمين
لذلك فإن المتأمل فيما حصل من استهداف مدمر لمسار الربيع العربي في المنطقة من داخله ومن خارجه باستعمال القوة الصلبة حينا والقوة الناعمة أحيانا لا يخلص إلا إلى اندراجه ضمن مخطط استدامة هيمنة الغرب رغم ما حصل من المرونة ومسايرة للموجة في البداية لمحاولة احتوائها لما كان لها من زخم نابع من انتظارات الشعوب وطموحها للحرية والتحرر على غرار كل شعوب الأرض التي  عاشت التحولات الديمقراطية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي.

لقد كانت بداية سقوط الغرب قيميا وأخلاقيا بسبب تآمره في المنطقة عبر وكلائه وعملائه على كل تجارب الربيع العربي وإسقاطها بكل أساليب المكر والخداع والقوة.. ثم تعمق ذلك السقوط الآن أثناء معركة طوفان الاقصى وإفصاحه عن  نظرته لطبيعة الصراع على أنه صراع حضاري غربي مسيحي متصهين ضد العرب والمسلمين وكل مقومات حضارتهم بما يوكد أن الرهان على الغرب لدعم الديمقراطية في منطقنا وهم لا طائل من ورائه، وأن قضية الحرية والديمقراطية هي المدخل الأساسي للتحرر الوطني والاستقلال الفعلي والتنمية.. بل إن كلاهما شرط لتحقيق الآخر ولا معنى لحرية وديمقراطية لا تحقق الاستقلال الفعلي ولا لاستقلال وتحرر وطني دون حرية وديمقراطية وحكم رشيد ولا معني لهما دون تحرير فلسطين .

فهل تعي نخبنا وشعوبنا وقواها الحية الدرس الفلسطيني وتدرك أن تفكيك وتفتيت المجتمعات العربية الإسلامية وصرفها عن قضاياها الأساسية وصناعة وفبركة عدوات وهمية بين مكوناتها الفكرية والسياسية الوطنية وسيادة منطق التخوين والتشويه والفرقة لا يخدم سوى استراتجية الهيمنة الغربية وتكريس مشاريع تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ في اطار مشروع ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد تحت عنوان صفقة القرن التي سيجهضها بإذن الله طوفان الأقصى؟

*كاتب وباحث تونسي