كتاب عربي 21

الإعدام المستحيل للديمقراطية

1300x600

ليس هناك الكثير مما يمكن أن يقال حول حكم أحد قضاة محكمة المنيا في مصر في أول يوم للجلسة وبدون حضور محامين وغياب باقي المؤشرات البديهية على أي قضاء بدائي على أكثر من خمسمائة شخص في محاولة اغتيال ضابط شرطة واحد.

مثلما يقال "الخيال يقتل الواقع أحيانا".

التنديد الواسع إزاء هذا بالكاريكاتور الأسود جعل حتى الرد المصري الرسمي، عبر وزارة "العدل"، محتشما يلتمس الأعذار الضمنية بما في ذلك الإشارة إلى حق الاستئناف.

لم يخضع القضاء المصري للعبودية في فترة الدولة الحديثة، وحتى تحت أعتى مراحلها التسلطية الأشد، لكن خر كل ذلك منهارا بعد "واقعة المنيا" وعلى يد القاضي المستشار سعيد يوسف صبري الذي برأ من قتل متظاهري ثورة 25 يناير وسجن سارق "جلباب حريمي" لثلاثين عاما.

ما حصل ببساطة ليس النهاية بل، وللأسف البالغ، بداية ملهاة الجنون لحكم انقلابي خارج عصره.

الحصيلة في مصر بالأرقام وحسب تقرير لمؤسسة كارنيغي جويلية، تاريخ الانقلاب حتى الآن: من بين 3143 قتيل هناك 2528 مدني قتلوا في إطار قمع الدولة للتحركات والمظاهرات في الشارع، و281 قتيل من جراء عمليات إرهابية.

تم اعتقال 18977 سجين سياسي بينهم 2590 قيادي في الإخوان.

لا يمكن لأي شخص يمتلك المؤهلات الكافية للكائن البشري أن لا يرى أن "عهد الاخوان"، وعلى عوراته جميعا، لم ترتكب فيه هذه الفظاعات.

معركة سلطة الانقلاب في مصر والتحالف الذي تشكل حولها في المنطقة ليست مع الإخوان المسلمين إلا شكلا، وفقط للحمقى والمغفلين.

معركة أيديلوجيا التحالف الإقليمي الجديد والمتصاعد هي مع الديمقراطية ذاتها.

يريد أن ينسى البعض أن ما نعيشه الآن بدأ على أساس ديناميكية جديدة قائمة على معطى بسيط: انتهى العهد العربي القاضي بأن الشعوب تتفرج على نخب تسلطية مترهلة بأنظمة حكم مهترئة.

في هذا النظام العربي المترهل هناك مركز متضخم بالغرور مركب من هوية عسكرية-مشيخية يمثل التجسيد المثالي للعقل الاستشراقي الكولونيالي: العرب لا يصلحون للديمقراطية والحكم الوحيد الممكن عربيا هو الحكم الدموي التسلطي.

طبعا هذا العقل الكولونيالي المقلوب ليس إلا تعبيرا شكليا على حالة العجز عن الفصل بين السلطة والملكية، والتي تقسم العالم إلى قسمين: إما تكون مالك العبيد أو أن تكون عبدا للدولة، وفقا لذلك ليس إلا، عقدا عموميا للعبودية.

لحظة احتراق الشهيد البوعزيزي هي لحظة احتراق السكون الذي غلف عقودا من عهد دولة العسكر-المشيخية، ولم ينس أي من أساطين هذه الدولة في أكثر مراكزها رجعية هذه اللحظة. تم استيعاب الصدمة والتهيؤ ببطء لكن بثقة بالغة للثأر. والثأر هو الآن وسيكون عنيفا ومدويا، لأنهم يعلمون أنها معركة وجود. يبقى هل نعلم نحن؟

في تونس وفي سياق المحاولات المحمومة بين شهري فيفري وسبتمبر 2013 للبعض لوقف مسار الانتقال الديمقراطي عندما تم رفع شعارات "حل المجلس التأسيسي" و"كل السلطات المنبثقة عنه" وتعويض "الشرعية الانتخابية" بـ"التوافق"، استعاد البعض خطاب الاستئصال المدبوغ ببصمات المخلوع بن علي من الصندوق الاسود واصبح الاختلاف مدخلا للاتهام بـ"الارهاب".

كان "السيناريو المصري"، بمعنى الدوس الفج والأهوج على المسار الديمقراطي بالأحذية عسكرية، جذابا وتم التغني به حتى من بعض قيادات المعارضة آنذاك.

ولم يكن من الصدفة أن "السيناريو" كان الطريق المرجو من قبل من تربى سنوات في قلب دولة العبودية والعصا الغليظة.

ما يجري عربيا الآن منعطف حاد، وصناعة للتاريخ، وخروج عن السكون. ولهذا ليس فقط سنعيش حالة صخب ليست بالقصيرة، بل ليس لنا أي خيار إلا أن نعيشها.

لقد خرج قطار الديمقراطية. مساره متعرج، نعم، لكنه خرج وانطلق. السؤال ليس ولن يكون هل سيصل بل متى سيصل. ليس التاريخ غائيا ربما، لكن هناك مراحل زمنية تنتهي فيها أشياء وتبدأ أشياء أخرى.

والجنون المزين بالكاريكاتور الدموي تحديدا الذي يشكل هوية الثأر من الربيع العربي ليس إلا التعبير الأكثر تركيزا عن "رقصة الديك المذبوح". تم ذبح الاستبداد عربيا. رقصة المذبوح عنيفة وصاخبة، لكنها آيلة إلى الانتهاء بلا ريب. السؤال ليس هل ستنتهي بل متى. إعدام الديمقراطية في السياق العربي وهذا الزمن الجديد أضحى مستحيلا. ما تم إعدامه تاريخيا هو الاستبداد. وحكم "الإعدام" في المنيا هو أحد شرارات الدم المتطاير من جسم الاستبداد المذبوح.

من تونس، وباستثناء بعض مخلفات الماضي المتعفن، أجمع البقية بلا استثناء من اليمين إلى اليسار، من الحداثة إلى الأصولية، على استنكار المذبحة القضائية. لم نعد نتحمل هنا هذا المشهد الاستئصالي. ننظر إلى مصر بكل ثقة أنها لحظة عابرة رغم كل المآسي. تحية كبرى إلى الشعب المصري الذي سيجد بديلا لهذا الجنون وعقد العبودية الجديد. ليس ذلك سوى مسألة وقت.