كتاب عربي 21

أن تكون بورقيبيا هو أن تكون مع الفصل 15 أيضا

1300x600
كتب طارق الكحلاوي: مرت منذ أيام (6 إبريل) ذكرى وفاة الرئيس الأول لتونس المعاصرة، ومثلما هو الحال منذ الثورة كانت مناسبة جديدة لحالة تجاذب سياسي. بين النقيضين، بورقيبة القديس مقابل بورقيبة الشيطان، يتحول شخص معقد مر بمراحل مختلفة في حياته إلى شخص مسطح ذي بعد واحد في مخيال إما يقدسه إلى حد العبادة وإما يشيطنه بلا حد. 

بالنسبة لي كان علي أن أمر منذ صغري، حينما عشت الجزء الأخير من حكم الرجل، بمراحل مختلفة لأفهم في النهاية وعلى أسس موضوعية لا ذاتية أن الرجل لا يتميز بلون حاسم، هو الشخص الرمادي بامتياز. 

مثلما أشرت في أحد النصوص منذ سنوات كنت من الجيل الذي كان بعضه -إن لم يكن كله- شاهداً على بورقيبة المهترئ، العجائبي، المتكرر إلى حد الضجر قبل وبعد وخلال نشرات الأخبار، في بورتريهات المحلات الفخمة وبيع الفواكه الجافة وحتى أعمدة النور، وأيضا الخرائب. 

بورقيبة الخطيب «صباحاً مساءً.. ويوم الأحد»، والضاحك أحياناً، الباكي أحياناً أخرى. وجه متقلب محفور بالقديم والعتيق، يتحرك كآلة صدئة، يتكلم بحشرجات تقبل التأويل، حتى تخاله شبح نفسه.

هو اسم تونس، أو هكذا أراد أن يكون وأراده أن يكون من تبقى من مريديه. كان اسم الشارع والمقهى والملعب والميناء والمطار ومحطة الحافلات وعربات النقل الريفي. اسم البنايات الرسمية والمنتجعات الترفيهية والجسور. اسم بطولة كرة القدم وكأسها ومنافسات الألعاب المدرسية وإنجازات الفرق الوطنية للرياضات الفردية والجماعية. اسم كتاب التاريخ والجغرافيا. اسم الحركة الوطنية وأعياد البلاد. اسم الشعر الشعبي والأغاني الوطنية والعاطفية إن لزم الأمر. اسم «الجهاد الأكبر» و «الأصغر» على السواء. واسم خطب رئيس الوزراء وبيانات الحزب والحكومة والمنظمات الشعبية والجريدة الرسمية وبداية البثّين التلفزيوني والإذاعي ونهايتهما. كان اسم النكات وأدب السخرية السياسية «تحت الأرضي». واسم هجاء أجيال المعارضين. كان خانقاً. كابوساً لا يشير شيء لنهايته.

بورقيبة المذموم بالمطلق والممدوح بالمطلق على السواء هو بورقيبة الأسطورة. هو بورقيبة الذي ننحته من زوايانا الذاتية تبعاً للظروف السياسية والفكرية التي نخضع لها أو نتمثل خضوعنا لها. 
وعلى الرغم أن ذلك أمر بديهي إلا أنه يصعب نطقه لمن عاش في زمنٍ بورقيبي أو ما بعد بورقيبي. إذ سيرة الرجل ذات منعطفات حادة ومواقف حادة ولهجة ولغة حادة تدفع بسهولة نحو ردود الفعل الحادة. 

لكن في السنوات الأخيرة أيضاً بدأ يحضر بصوره المفارقة حتى لدى ألدّ معارضيه. مثل هذه الصورة المفارقة مثلاً هي التي انطبعت لديّ في إحدى السنوات القريبة الماضية خلال زيارة لأحد أهم وزراء الحكومات الأولى لبورقيبة، والذي لا تقل صورته أسطورية، أحمد بن صالح، والذي كان في وقت ما أقرب مقربيه قبل أن يصبح أبعد المبعدين عنه في وقت لاحق. بكل الحيوية الممكنة وبصوت بطيء وبعينين متقدتين وصف بن صالح بأدق التفاصيل أحداثاً عاشها مع الزعيم الراحل. 

لفت انتباهي بشكل خاص صوته المتأثر وهو يصف زيارة قام بها بورقيبة إلى قرية «المكنين» زمن الاحتلال الفرنسي في وقت حصار أمني خانق. كيف ترجل الرجل من سيارته وسط سوق القرية ووقف على كرسي وبدأ يخطب في تحدٍ للقوة المحتلة وأجهزتها المحلية عن ضرورة الاستقلال وسط دهشة الجميع حتى معاونه الشاب بن صالح. الأخير الذي ذاق الكثير من اللحظات المرة على أيدي الرئيس الراحل لم تنتقِ ذاكرته القوية صوراً أحادية الطابع لغريمه السياسي الراحل. لم يستطع أن ينسى الصورة الفسيفسائية لبورقيبة.

من المفارقات المدهشة الأن أن من يروج صورة بروقيبة "القديس" بقي صامتا يتفرج بعيدا لامباليا على مأساته حيث لم يتحرك أحد من محتكري تراث الرجل في أكثر الأوقات التي احتاج فيها إلى السند، أي عندما كان يقتله بن علي في صمت بارد بعيدا عن الأعين ومعزولا عن الجميع، وهو يتوسل في رسائله قليلا من الضوء ومجرد حق المشي في شوارع مدينة منشئه. تقريبا لا أحد من مدعي وراثته المتفاقمين مثل الفطر الأن، مثلما هو موثق في "الكتاب الأبيض" الصادر سنة 2013 عن رئاسة الجمهورية، حاول حتى أن يكسر هذه العزلة بأي حركة كانت. 

من المفارقات المدهشة أيضا أن ورثته الأكثر صلفا وغرورا هم من يرفض باستعلاء إدراج فصل في القانون الانتخابي ("الفصل 15") يمنع من تورط بصفة قيادية في نظام بن علي من بناء الدولة الديمقراطية الجديدة من خلال الترشح للانتخابات خاصة إزاء ما نشهده من عودة بلا حياء لرموز الماضي سيء الذكر ودفاعهم عن عهد الاستبداد. بينما بورقيبة ذاته أسس النظام الجديد على قاعدة منع المتورطين على مستوى قيادي مع الاحتلال الفرنسي من الانخراط في دولة الاستقلال وذلك في فترة استمرار التعددية الحزبية وقبل أن يحسم أمره بداية الستينات ويمنعها. 

الوثيقة الفريدة من نوعها قانون صدر في 19 نوفمبر 1957 بعنوان "قانون التجرد من الحقوق القومية". القانون صارم للغاية حتى يمكن تشبيهه بقانون "اجتثاث البعث" وليس الفصل 15 المعتدل للغاية، إذ  يعتبر أفعالا مثل "المشاركة في الحكومات المزعومة" تحت الاحتلال ومباشرة وظائف في مصالح الأمن أو الصحافة أو الأخبار حينها، بل "كل من شارك في تنظيم مظاهر فنية أو اقتصادية أو سياسية لفائدة الاستعمار" جناية يعاقب عليها بالتجريد من حقوق أساسية تتراوح بين حق المشاركة في الانتخابات بل حق الاقتراع والتصويت نفسه، وأيضا طردهم من وظائف الدولة.

لا نحتاج قانونا مماثلا في تونس، ولا نحتاج بورقيبة للتدليل على أهمية تحصين الانتقال الديمقراطي ممن شارك بشكل قيادي في استدامة ودعم نظام الاستبداد والفساد. لكن فقط بمناسبة ذكرى وفاة بورقيبة يحق لنا أن نقول لمن يرفض الفصل 15 تحت غطاء البورقيبية، أن تكون بورقيبيا هو أيضا أن تكون مع المنطق السليم البديهي لأي رجل دولة جدي وهو عدم الانسجام بين بناء الديمقراطية والاستعانة في ذلك بمن منعها لسنوات ومن لا يرى أي داع الأن حتى لمجرد الاعتذار عن ذلك.