كتاب عربي 21

إعدامات بالجملة والمفرق؛ قضائيا وميدانيا وسياسيا!!

1300x600
"وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكا".. كأنما قيل البيت بالأمس، فيما يردده الناس منذ قرون، وكأنما كتب على هذا البلد العظيم أن لا يغادر المضحكات المبكيات، حتى بعد أن أطلق شعبه ثورة من أروع الثورات في التاريخ.

القوى الاستعمارية لم تترك هذا البلد أبدا، ولن تتركه طائعة، فهو يذكّرها بمعركة حطين، وهو يذكّرها بأنه حين يتماسك وينهض، فستنهض من ورائه أمة عظيمة ستحتل مكانها اللائق تحت الشمس، تماما كما احتلته قرونا قبل ذلك.

بعد ما يقرب من عام على الانقلاب العسكري لا زالت الشواهد تترى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. شواهد تؤكد أن ما جرى كان انقلابا عسكريا؛ ليس على حكم الإخوان كما يزعم موتورون كثر، إذ أنهم لم يحكموا أصلا حتى يجري الانقلاب عليهم، حيث ظلوا على هامش السلطة يسترضون الجيش على أمل نقل البلد من الشرعية الثورة إلى الشرعية الدستورية دون جدوى، بل انقلاب على ثورة رائعة كانت تبشر؛ ليس فقط بتحرير بلد كبير من الفساد والاستبداد، بل أيضا بتحرير أمة كاملة من ورائه عبر مسيرة عظيمة كان ينبغي أن تعيد للشعوب قرارها المسروق من قبل نخب هيمنت على السلطة والثروة، فأفقرت العباد وقمعتهم وأذلتهم، ووضعت البلاد رهن الإرادة الأجنبية.

قيل عن انقلاب 3 يوليو إنه استكمال لثورة يناير، وها إن تسلسل الأحداث يؤكد أنه محض انقلاب على ثورة، وأنه لا شيء بين سطوره يشير إلى أنه كان غير ذلك، إذ لا يعود النظام القديم بكل مساوئه فحسب، بل تحل مكانه نسخة أسوأ بكثير، كأنما يُراد لهذا الشعب العظيم أن يُعاقب على ثورته النبيلة، بخاصة من أنظمة الثورة المضادة.

يوم أمس، كنا أمام فصل جديد من هذه اللعبة الحقيرة؛ لعبة معاقبة شعب على ثورته، ذلك أن الـ683 شخصا الذين حكم عليهم بالإعدام إنما كانوا جميعا من فرسان ثورة يناير، والجماعة التي ينتمون إليها هي التي حمت الثورة وأوصلتها إلى محطة الانتصار بشهادة ألد خصومها قبل أن يتنكروا لكل شيء (تصريحاتهم موثقة صوتا وصورة في "يوتيوب").

ربما لن يجري تنفيذ حكم الإعدام بحقهم جميعا، وربما يُخفف الحكم على بعضهم، لاسيما أننا شهدنا يوم أمس أيضا تخفيف الحكم (إلى المؤبد) على 491 ممن حكموا بالإعدام قبل أسابيع، بينما جرى تثبيت الحكم على 37 منهم، لكن ذلك لا يغير في بؤس المشهد شيئا، فقبل ذلك بأيام كانت ذات المحكمة تحكم على عدد آخر بأحكام غريبة تراوحت بين 55 و 88 عاما بتهم سخيفة تتعلق بالتظاهر والانتماء لجماعة محظورة والاعتداء على ممتلكات، إلى غير ذلك من تهم سخيفة (ملفقة) لو صحَّت لما استحقت أكثر من سنوات قليلة، فكيف وأكثرها ملفق؟!

إنه جزء فقط من المشهد البائس في مصر المحروسة، فبينما يتابع الجميع تلك المجازر القضائية الموغلة في السخرية، وحيث يُحاكم المئات ويُحكمون خلال ساعات بالإعدام، لا يزال مشهد القتل في الشوارع لمتظاهرين سلميين يتكرر بين يوم وآخر، من دون أن ينسى الناس آلافا أخرى ممن قتلوا وجرحوا في المجازر الجماعية السابقة.

فوق ذلك كله، ثمة مجازر بحق الإعلام الحر، معطوفة على استخدام مبتذل للجزء التابع للسلطة من وسائل الإعلام، ومجازر أخرى سياسية، حيث شهد يوم أمس تحديدا حظرا لحركة 6 إبريل، ما يؤكد أننا إزاء حملة ترهيب لمجتمع بأكمله، وصناعة لدولة بوليسية لم تعرف لها مصر مثيلا في تاريخها كله، والسبب واضح بطبيعة الحال، إذ أن نوايا أي نظام سحق أكبر حركة سياسية لا يمكن أن يتم من دون عسكرة المجتمع برمته، وتحويله تبعا لذلك إلى سجن كبير.

المصيبة أن ذلك يحدث وسط تواطؤ عربي ودولي؛ يطلق إدانات وانتقادات خجولة، لاسيما أن رعونة النظام لا زالت تحرج مؤيديه، ممن يجدون مصلحتهم في استقرار حكمه على هذا النحو، بخاصة الطرف الصهيوني الذي يعمل مقاول علاقات عامة دولية تستقطب التأييد له من كل مكان.

من الصعب القول إن ما يجري يعني أن نهاية الانقلاب قد باتت وشيكة، فالسكرة لا زالت تأخذ بألباب كثيرين قتلتهم الحزبية وأعماهم الحسد، وآخرين ضللهم الإعلام الفاجر، كما أن الدولة بكل مفرداتها لا تزال موحدة خلف الانقلاب، وزعيمه القادم قريبا إلى سدة الرئاسة، لكن المؤكد هو أن ما يجري وسيجري لن يفضي إلى استقرار حقيقي، ولن يلبث المصريون أن يتوحدوا من جديد ضد هذا الحكم البوليسي الذي يُترجم سريعا على الأرض كل ما ثاروا من قبل ضده؛ من قمع وإفقار وفساد، وإلى جانب ذلك تضييع لدور مصر الخارجي.