مقالات مختارة

عن مصر السعيدة بأمراضها

1300x600
كتب حسام عيتاني: سيحقق المشير عبد الفتاح السيسي فوزاً سهلاً في الانتخابات الرئاسية. كل استطلاعات الرأي والعينة التي وفرها اقتراع المصريين في الخارج، تقول ذلك. ولا يبدو سؤال «اليوم التالي» مطروحاً، فالأرجح أنه سيكون تكراراً لـ «اليوم السابق».

يستدعي هذا نظراً في حال مصر وثورتها بعد أكثر من ثلاثة اعوام على نجاحها في فرض التنحي على الرئيس الأسبق حسني مبارك، فتبدو الصورة شديدة الاضطراب مائلة الى السواد. ذلك ان الشعارات التي حملتها ثورة 25 يناير 2011، لم تعد حاضرة في خلفية خطاب التيار السياسي العريض المؤيد للسيسي، على رغم كل التصريحات عن الانتماء للثورة وقيمها وأهدافها.

ثمة مشكلة في التعامل مع الثورات العربية إذ تبدو كأنها تأتي مترافقة دائماً مع الثورة المضادة لها. فلا يكاد رئيس النظام السابق يستقيل حتى يظهر الاستعصاء في انجاز المرحلة الانتقالية سلمياً، يعيد ذلك السجال حول طبيعة الأحداث التي بدأت في تونس ولم تنته بعد. هناك من يرفض وصفها بالثورات من أصلٍ كالمفكر الفرنسي آلان باديو الذي رأى فيها «شغباً تاريخياً» من دون ان ينتقص ذلك من قيمتها كفاتحة لتحولات عميقة في المجتمعات والدول العربية من غير ان تكون «ثورات» ينبغي ان تتسم ببرنامج وقيادة وجماعة ثورية.

لكن هذا «الشغب التاريخي» يبدو وكأنه فقد قدرته على تحريك المجتمع المصري الذي تقول شعبية السيسي العارمة انه يريد العودة الى الحياة اليومية الهادئة، على بؤسها وتصحرها، مقابل الاستمرار في المسار الثوري الذي تعثر مرات ومرات. ويطرح ذلك، مرة ثانية، السؤال عن المصالح الحقيقية التي وعدت الثورة المصريين بتحقيقها وأولويتها بالنسبة الى القطاعات الأعرض منهم، اضافة الى السؤال عن الامتداد الشعبي للثوار مقارنة بعدد السكان التسعين مليوناً.

فمن غرائب مواقف السيسي، الى جانب رفض حملته الإفصاح عن أي برنامج مستقبلي له على أي صعيد كان، تصريحه ان الشعب المصري غير مستعد للديموقراطية الآن وأن حلولها كاملة يتطلب حوالى الربع قرن. يبرز هنا السؤال البديهي عن جدوى لجوء السيسي الى صندوق الانتخاب، الأداة الأولى للديموقراطية، ما دامت الديموقراطية ليست الوسيلة الحقيقية لاختيار الشعب رئيسه؟
غني عن البيان ان المرشح الأوفر حظاً لم يناقض نفسه بتصريحه المذكور. فمنظمات حقوق الإنسان تتحدث عن 15 الف معتقل من المعارضين الإسلاميين له ومن حركة «6 ابريل» التي رفضت منذ ثورة يناير المشاركة في الانتخابات التي جرت مفضلة البقاء منظمة على مستوى القواعد وبناء ارضية سياسية مستقلة. يضاف الى ذلك مئات الأحكام بالإعدام واستعادة السيطرة على الإعلام.

على أن كل ذلك يبقى على سطح الظاهرة وأطرافها. فما نعاينه اليوم لا يمكن اختصاره بمرشح من خلفية عسكرية وآخر هو حمدين صباحي الآتي من مسار سياسي اقرب الى العمل السياسي بمعناه المفهوم المتضمن نشاطاً حزبياً ومشاركة في محاولة نشر الديموقراطية. بل ان المسألة تتعلق حقاً بما يريد المصريون. ولعل هنا الطامة الكبرى. مناخ اليأس من التغيير والشعور باختطاف «الإخوان المسلمين» للثورة بعد محاولة المجلس العسكري الهيمنة عليها، وبالتالي إفراغها من كل مضمون تحرري وجعلها منصة للوصول الى السلطة، حطّما الوعود التي حملتها الثورة، على تواضعها، وعززت الدعوات الى الانكفاء عن الحياة العامة والمشاركة فيها وأعادت وضعها بين حجري رحى القمع السلطوي والإرهاب الأصولي.

عليه، يجوز الحديث عن تراجع القوى التي حملت شعارات الثورة الى اطار البحث عن متطلبات الحياة اليومية وكفافها والتخلي عن احلام/اوهام التغيير السياسي الكبير. من هنا لا تعود المسافة واسعة بين الاقتناع بلا جدوى السياسة والدفاع عن الثورة وبين التسليم بأمر واقع يعاد بناؤه بذات الأحجار التي بنيت عليها دولة حسني مبارك، ما دام لا تغيير في بنية الاقتصاد الذي يجب ان يجذب الاستثمارات الخارجية وينعش السياحة، من دون بحث في شروط هذين الموقفين ولا في هوية الفئات التي تستعد للعودة الى مقاعدها في الصفوف الأولى في الاقتصاد والسياسة.

يفضي ذلك الى مساءلة المجتمع المصري وثقافته ونظام التعليم فيه ورضا الأكثرية الساحقة الفقيرة والفئات المعدمة على الطريقة التي تحيا بها والظروف التي تعاني في ظلها. صحيح ان الثورة لم تنهِ مآسي الفقر ولم تفلح في تحسين مستوى التعليم المتدني ولا حسنت الخدمات العامة، لكن الاستنكاف عما تبقّى من الثورة يبرر تأبيد هذه الظروف وإضفاء صفات ثابتة عليها وإخراجها من حيّز البحث والعلاج، على ما يمكن استنتاجه من غياب أي برنامج رئاسي جدي.

في الوسع الإشارة هنا الى ما يلاحظه من لا يعيش ملتصقاً بالحياة اليومية المصرية، من انحسار هائل لثقافة التنوير والبحث في اسباب النهوض والارتقاء، حيث لم يعد ممثلو هذا التيار سوى اقلية تعاني الأمرين في نشر اعمالها وإحياء النقاش العام، مقابل تسيّد الأصوات الأكثر تخلفاً وجهلاً للمشهد الثقافي والإعلامي. فمصر التي كانت ساحة النهضة العربية الأولى، تصدّر اليوم ظواهر مريضة لا يندر ان ترعاها اجهزة الدولة و»نخبها». يكفي للاقتناع بذلك جولة على اغلب الأصدرات والمقالات والمحطات الفضائية، فيما لا يبدو ان ذلك يُغضب او يزعج اكثرية المصريين.

(الحياة اللندنية)