مقالات مختارة

الخروج من حفل القصابين

1300x600
كتب سرمد الطائي: إنها فرصة يجب أن لا تضيع، لا لأنها مضمونة المفعول، بل لأننا بصراحة لا نمتلك فرصة غيرها. لم يعد الموتى أنفسهم يعبأون ببكائنا عليهم، لأنه بالأساس أصبح نهر دموع بين مصائب تتناسل. ولعل الموتى يدركون أفضل منا، أن المسألة أبعد من مجرد موت، بل لحظة اختلال عقلي وعاطفي رهيبة، لا تعالجها مجرد تصليحات وترقيعات.

ليست المشكلة في مجرد وجود ميليشيات، رغم ان وجود مسلحين غير نظاميين في الشوارع، دليل على وجود اختلال رهيب. لكن الجيوش ترتكب المجازر ايضا في بلادنا. حادثة الحويجة ليست بعيدة عنا، وقال كل العقلاء يومها انها نذير شؤم في ربيع 2013. جيشنا في العهد السابق تورط بمجازر لا تحصى، مهدت لروح انتقام وكراهية مروعة. 

السلام لا تصنعه ايضا، ملايين البنادق بيد رجال مندفعين، يقودهم مجانين كبار باحثون عن البطولة في سوق الانفعالات العظمى. وفي لحظة الاستقطاب المذهبي، لنتذكر ان المجانين الحاملين للسلاح ليسوا خطرا على اتباع الطائفة الاخرى وحسب، بل هم خطرون على طوائفهم نفسها.

لنتذكر ايضا ان المجانين لا يحمون احداً، بل يقومون وحسب بحماية النهج البدائي والعدائي في الحكم. ذلك انهم يدافعون عن جنونهم، اذ لا مكان لهم في مجتمع تضبطه العقلانيات والقوانين الحديثة.

المجانين ايضا، ثمرة مؤسفة لاجيال نشأت في متاهات الخراب، وهي تنجب اجيالا كي يتيهوا في الخراب المستمر، منخرطين في احلام تشبه احلام داعش واحلام مسلحي الطائفة الاخرى، بل واحلام باقي اشكال الجريمة السياسية التي تنتج ساسة متسرعين، لا يفهمون معنى الدولة وقواعد الاستقرار.

كل ما يجري، وكل روح الثأر لدى الطرفين وهي تحوم حول جامع مصعب بديالى، وبلدة آمرلي، وجثث ضحايا سبايكر، ناتج عن امر اصيل: لم نؤمن بقيمة التسامح، وحسبناه جبناً وتخاذلاً، وهرعنا لاخذ حقوق الطائفة فضاع الجميع. بينما تصنع الامم المتحضرة السلام بتسامح صارم، لانها تعتقد ان افضل رد على المجرمين، هو ان نمتلك ذلك الاستقرار العميق والرفاهية الكريمة، بدل عالم دموي. لكن البوصلة تضيع، وهي ضحية لسوء التربية، ونقص التدبير.

الفرصة السانحة الان للبدء بوقف الكارثة، هي فرصة نادرة لا يجب ان يجري تخريبها. التفهم الاقليمي والدعم الدولي، والشعور الداخلي بضرورة العمل المشترك، فرصة يجب ان نقوم بحمايتها، لا لانها مضمونة المفعول، بل لاننا بصراحة لا نمتلك فرصة غيرها.

الحوادث الاخيرة، سواء تحدثنا عن دم شيعي او سني مراق، وسواء قصدنا مأساة النزوح العظمى للايزديين او المسيحيين والتركمان وسواهم.. تقول لنا شيئا واحدا: لا توجد قبيلة يمكنها التسيد على قبيلة اخرى. ولا يوجد طريق لمواصلة الثأر الى الابد. هل رأيتم المثل الفارسي الذي كتبه صديق على فيسبوك اليوم "الدم لا يغسله الدم".

ان تصميم الحلول السياسية ومعايير الحق بمفهومها الحديث، ليس ترفا، بل تدبير دقيق تلجأ اليه الامم يمنع من انحدار المجتمع نحو قواعد بدائية للصراع.

الفرصة لم تفت، بل بدأت لتوها، لوقف الكارثة، واعلان صفقة تصالح كبرى. اما اذا فات الاوان، واصبح العراق كله مجرد آمرلي كبيرة، او ديالى كبيرة، فان المسؤول عن هذا، كل القادة الذين ترددوا ولم يسارعوا لطرح صفقة سلام شاملة.

الاستعداد للصلح بلا شروط، ليس تخاذلا. لان الانتقام الحقيقي ممن نعتقدهم مجرمين، هو ان نحصل على حياة مستقرة، توفر الكرامة لامهاتنا واخواتنا واطفالنا.

ان القادة العاجزين عن ادراك هذا، هم مجانين كبار، لا وجود لهم في صيغ الحياة القابلة للبقاء. هل نعيش يا ترى لحظة انقراض مؤلم ودموي لهذا الجنون العنيد، وهل ستسمح لنا الانقراضات المتسارعة هذه، لان نعبر نحو الجزء القابل للبقاء من اللعبة، عبر مراجعة تتطلب اقصى درجات الحكمة؟ وهل لبقايا الحكمة ان تستجمع رباطة جأشها في حفل القصابين هذا؟

(المدى العراقية)