قضايا وآراء

تونس: الثورة العرجاء وأمل الدقائق الأخيرة

1300x600
استفاق التونسيون صبيحة الرابع عشر من يناير من سنة الحادية عشر وألفين على شمسُ شتاء ناعمةُ فوق العادة كانت قد غمرت غابات الزياتين الرائعة وتسللت من شقوق نوافذ الشقق الفاخرة أمام شوارع فارغة تجشؤ برائحة الشهداء العطرة.

وعلى صوت ذلك المواطن الذي يصيح بأننا تحررنا، وبعد سهر ليلة مرعبة لساعات الصباح الأولى في ذلك اليوم المشهود وتركيز مطول أمام شاشات التلفزيون المحلية والعالمية .. قام التونسيون على خبر فرار الديكتاتور وهروب جلاد الشعب وقاتل الشهداء و سارق المساكين، منهيا بذلك حقبة زمنية مليئة بالظلم والقهر والاستبداد وخاتما لجداول حزنِ أرضعت النخيلْ.

فجر يومها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بهروبه حناجرا بالقهر أدمنتِ العويلْ ومحركا بمغادرته رؤوس النَّاس المظلومة التي كانت تيجاناً مُحطَّمةً وأجساداً تُصارِعُ بَعْضَهَا، كانت يومها وجوهُ الناسِ كأشرعةً مكسَّرةً لكنها لم تتوانى في تهنئة بَعضَها البعض ولم تتردد في الخروج فرحة وتهليلا واحتفالا بانزياح الغمة منهية بذلك شواطِئاً بكت طويلا على أطلالِ ليل انتهى عويله منذ ذلك اليوم.

مرت ثلاث سنوات على انطلاق تلك الشرارت، ذكريات لن تمحى من ثورة تونسية رُفِعتْ لها القبعات وهلل لها العالم بجميع أصقاعه وبقاعه .. ثورة أذهلت كل المراقبين والملاحظين ولم يتوقعها أكبر المتفائلين .. ثورة لا زالت تبحث على توازنها وتبحث عن حلول لتجاوز الحواجز التي حالت دون تحقيق أهدافها وأهداف ذلك المواطن التونسي البسيط وحالت الظروف دون الوصول للأهداف التي قامت من أجلها تحت مسميات وعناوين كبرى زينت حناجر أبنائها على غرار الشغل والحرية والتنمية في الجهات الداخلية.

 بعد ثلاث سنوات من التغيير الذي حدث في رأس السلطة لم يشعر المواطن البسيط أنه يملك شيئًا إضافيا قابلا للتعريف، وتسلل إليه شعور بأن المرافق العامة يشعر أنها ملك للسلطة دون سواها، و أن ما يحدث ليست مسألة تسهيلات حياتية له ولرفاهيته الشخصية والعائلية وهو ما جعل بذلك الهوة أكثر اتساعا بينه وبين دولته وأصبح يشعر أن ما يستحقه من خدمات وتقديرات تُقدم له ( إذا قدمت أصلا) كمنّة أو فضل، لا كواجب مستحق له.

بالتوازي مع ذلك لا تزال الساحة السياسية في تونس اليوم وفي ذكرى انقلاب السابع من نوفمبر تبحث عن توازنها و مصداقيتها لدى شعبها الذي نفرها بسبب خلافات أغلب سياسييها  وسقوطهم الأخلاقي الرهيب الذي لازمهم جميعا دون استثناء، سياسيون منتمين لطبقة سياسية بورجوازية تحاول إيجاد الحدّ الأدنى من أرضية تحالف وهمي وبحث وتأمل في كيفية كبح جماح كل منافس بإمكانه الكذب أكثر منه بوعود واهية رخيصة ترتقي في أغلبها لدرجة النذالة، يتم على أساسها تبيان التيارات وتقاسم النفوذ الولائي والشعبي داخل القاعدة الجماهيرية التي اتسعت وأصبحت أكثر قبولا للتنظيم والعمل السياسي والانخراط داخل الأحزاب السياسية.

يبدو المشهد العام في تونس بعد ثلاث سنوات ونيف في انفتاح أغلبه مبالغ فيه ركز على الأفكار والإيديولوجيات أكثر من تركيزه على "قفة" المواطن المسكين الطيب الذي أنهكته الزيادات الرهيبة في المعيشة، واقع حزين بدأت من خلاله عديد الأحزاب التونسية حملات إشهارية وجدت نفسها من خلاله فجأة دون سابق إنذار أمام مهام جديدة كالندوات الصحفية والاجتماعات العامة العلنية التي لم تتعود عليها في البحث عن أخطاء منافسين لطالما كانوا حلفاء الأمس في النضال وفي الديكتاتورية وأعداء اليوم في ظل مصالح حزبية وسياسية.

أحزاب أدمنت في السابق عملا طويلا في كنف السرية قبل أن ترى النور زمن الحرية الثورية المليئة بالفوضى التي ملأت الإعلام و الشوارع وحتى منازل البعض، تجد تلك الأحزاب رغم حداثة عهدها صعوبة في التواصل الجماهيري وصعوبة في التوازن وسط محيط شبابي هادر بالشعارات الثورية والقيم الكونية والأفكار الحديثة التي وردها البعض لغاية في نفوس البعض لأجل الوصول لمنصب أو كرسي.

يبدو المشهد في تونس بعد الانتخابات قاتما ومبهما إلى أبعد الحدود أمام عودة النظام القديم وخوف حزب النهضة الإسلامي الأكثر شعبية من مشهد المحاكمات الزجرية في جمهورية مصر العربية والرعب الذي تمكن من أغلب قيادييها وسط رفض جزء كبير من منافسيها لها لأسباب منها الإيديولوجي ومنها التاريخي.

وفي خضم هذه الفوضى السياسية الكبيرة يجد المواطن التونسي البسيط نفسه أمام مطرقة الديكتاتورية وسندان العاطفة الديمقراطية وسط تحديات كبيرة وآمال مليئة بالشكوك لغد أفضل وسط جار ليبي ملأ أرضه الإرهاب وصار على مشارف حرب أهلية وآخر يقبع وسط ديكتاتورية جنرالات وأوامر الجيش العسكرية.

 لكن يبقى أغلب شرفاء هذا الشعب ورغم ما حدث وسيحدث لهم، مرددين على الدوام قصيدة نحتها شاعر الخضراء ذات يوم "نموت نموت و يحيا الوطن" ...

دمتم شرفاء ..