قضايا وآراء

جدلية الثورة والتنوير

1300x600
دأب الغرب طويلا، سواء في صورته الحالية كدول قومية حديثة أو قديما في صورة إمبراطوريات، على التعبير عن نياته الطيبة بإدخال الحضارة إلى البلدان المتخلفة، كان الفرنسيون بالأخص مغرمون عبر التاريخ أكثر من غيرهم بعبارة "مهمة حضارية "، وقدموا مبررات لاستعمارهم لبلدان أفريقيا وآسيا على أنها "حملات تنويرية وحملات حضارية " لتلك البلدان.

لكن "إدموند بيرك"، ذلك النائب المناصر للثورة الأمريكية، وأعظم مفكر سياسي يظهر في المستوطنة البروتستانتية في القسم الجنوبي من إيرلندا "بايل" كانت ردة فعله على اندلاع الثورة في فرنسا، التي تعدّ البداية الأهم لتجلي عصر التنوير والنهضة على المستوى السياسي والاجتماعي في أوروبا.

على العكس من ذلك تماما، أورد بيرك في كتابه "تأملات حول الثورة في فرنسا": (هل علي حقا تهنئة رجل مجنون سبق له أن هرب من مركز رعاية أفلت من الظلمة التامة في حجرته وذلك على عودته إلى الاستمتاع بضوء النهار والحرية؟ هل علي تهنئة قاطع طريق ومجرم تمكن من اقتحام سجن بعد استعادته حقوقه الطبيعية؟) توقع بيرك الطبيعة العنيفة للثورة الفرنسية في مرحلة مبكرة جدا. نشرت تلك الكلمات في 1 تشرين الثاني من العام 1790.

الذي جعل المفكر بيرك يتوقع تلك الطبيعة العنيفة للثورة الفرنسية في مرحلة مبكرة من تفاعلاتها بشكل استثنائي هو الأفكار السياسية التي تبنتها الثورة منذ البداية وهي الأفكار التي تخص "روسو"، بينما انتشرت أفكار جون لوك في بريطانيا وأمريكا الشمالية.

 تفاعلت الثورة الفرنسية مع أفكار روسو السياسية، كان كتاب جان جاك روسو "العقد الاجتماعي 1762" من بين أخطر الكتب التي أنتجتها الحضارة الغربية على الإطلاق، رأى روسو أن الإنسان نبيل متوحش يتردد في الخضوع للسلطة، أما السلطة الوحيدة التي يمكن له الخضوع لها فهي "سلطة الشعب" و"الارادة العامة الجماعية".

 يرى روسو أن الإرادة العامة يجب أن تكون إرادة سامية بحيث ينحني أمامها القضاة والمشرعون، لا يسمح بوجود أي اتحادات تقسيمية لا يمكن بالنسبة، بالنسبة إليه، وجود المسيحية لا يوجد شك بأن الحرية أمر جيد، لكن بالنسبة لروسو الفضيلة هي أكثر أهمية يجب أن تكون الإرادة العامة هي الفضيلة العامة وهنا ظهرت الأمور التي روعت بيرك منذ البداية:

القانون هو التعبير عن الإرادة العامة الجماعية 

لا ينبغي إزعاج أي شخص بسبب أرائه بما في ذلك أرائه الدينية، بشرط إلا تتسبب هذه الآراء بضرر للنظام العام الذي أرساه القانون.

إن الملكية هي حق مقدس غير قابل للخرق، لذلك يجب ألا يحرم أحد منه باستثناء حالات الضرورة العامة والضرورات القانونية التي تتطلب ذلك بوضوح. 

في رأي بيرك كانت هذه الفقرات هي التي أثارت شكوكه وأطلقت تحذيراته، إن الأولوية التي أعطاها روسو للنظام العام والضرورات العامة هي التي صعقته لكونها شريرة تماما، رأى بيرك أن الإرادة الجماعية هي هيئة أقل موثوقية لاختيار الحاكم مما هو مبدأ الوراثة، وذلك لأن الحكام الذين يجري اختيارهم بهذه الطريقة يميلون أكثر إلى احترام "الحريات القديمة"، وهي الحريات التي كان بيرك يفضلها على الحرية الفردية المطلقة والمجردة.

شهد التاريخ أن بيرك كان محقا، وأن الانطلاق من تلك الأفكار سبب عنفا غير عادي باسم الثورة والحضارة والتجديد والتنوير، كانت الثورة الفرنسية عنيفة منذ بدايتها، توج الثوار اجتياحهم لسجن الباستيل المقيت 14 تموز من العام 1789 بقطع رأس المركيز دي لوناي حاكم الباستيل وجاك دي فليسيل رئيس مجلس تجار باريس.

 أما وزير خارجية الملك جوزوف فرنسوا وصهره برثييه دي سوفنيه فقد لقيا مصرعهما بدورهم. أما شهر أيلول من العام 1792 فقد شهد إعدام نحو 1400 سجين وذلك بعد التظاهرات المعادية للثورة التي جرت في بريتاني وفيندي ودوفاين، لكن الثورة كانت بحاجة إلى أمور أخرى من أجل تنفيذ مجزرة الرعب وهي أول تظاهرة في العصر الحديث تشهد على الواقع الكئيب القائل أن الثورة تلتهم أبناءها.

ومنذ تلك اللحظات انطلقت موجة من العنف منبعها فرنسا زعيمة التنوير، ولم تجتحْ فرنسا وحدها، بل اجتاحت أوروبا كلها في تعبئة شديدة الحماسة من داخل فرنسا لحرب النمسا وهولندا وبريطانيا وإسبانيا، أحد التقديرات ذكر أن قتلى المعارك بين الجانبين في الفترة بين عام 1792 و1815 هم 3.5 مليون قتيل، وهذا لا يشمل نسبة الضحايا في الداخل الفرنسي نتيجة القمع الثوري الذين بلغ عددهم 70000 سيقوا إلى المشانق وإلى المقصلة بدون محاكمة، ولا يشمل عدد الضحايا الذي يتراوح بين 80000 و300000 هلكوا في قمع ثورة الملكيين التي حدثت في فيندي.

إن تلك الأرقام تؤكد الطابع الدموي للتنوير وللحضارة الغربية التي تدعي الحريات وحقوق الإنسان، لكن الأخطر هي تلك الفقرات التي سبق ذكرها المستمدة من أفكار روسو، التي ترسخ حكم المصلحة العامة التي تعلو القوانين والمبادئ والأعراف والدين وترسخ الاستثنائيات لحكم القانون.

وهذه الأفكار هي التي انتشرت بعد ذلك في دول الشرق أيضا باسم التنوير والحضارة وتبناها نخب قومية وعلمانية بعد الحقبة الكولونيالية، فاستبدلوا المصلحة العامة بمصلحة الدولة، فأصبحت مصلحة الدولة وأمن النظام صنما يعبد من دون الله، وتقدم له القرابين من دماء الأبرياء، وتصنع له الاستثنائيات، وتفصل على مقاس رجاله القوانين والمصالح.

وعندما قامت ثورات الربيع العربي كانت لاتزال ظلال تلك الأفكار الاستبدادية تعشش في عقول أغب المشاركين في الثورة، ولأن الثورة تعني في الأساس القطيعة مع كل ما مضى كما رسخت لذلك المصطلح الثورة الفرنسية والحضارة الغربية وعقود طويلة من الاستعمار، جاءت الدعاوي للقطيعة مع الدين ومع كل شيء وبداية عصر التنوير وإعادة البناء والتمركز حول الدولة من جديد أن أفكار الثورة في الربيع العربي بالأخص في مصر لم تكن تتوجه إلى المجتمع أو الأمة بل تتوجه نحو الدولة كعدو ومخلص في الوقت ذاته لذلك كانت العداوة ليست جذرية مع الدولة بل كان كل فصيل يتحالف معها فترة من الفترات رغم ديباجاته ليس ذلك فقط بل مشروع كل فصيل كان يتمركز أيضا حول الدولة ككيان معنوي لا يمكن تخيل العيش بدونه وككيان مادي يتجلى في المؤسسات وإن تلك المؤسسات هي بيوت عبادة الدولة ومعابد اللاهوت الخاص بها التي لا يمكن مساسها بسوء.

أخيرا إذا أراد الإسلاميين "كفصيل يهتم بالرجوع إلى الإسلام وتطبيق شريعته " أن يضبطوا أفكارهم ومصطلحاتهم على الإسلام وليس العكس وان يتخلصوا من أفكار الدولة والتمركز حولها في مشروعهم، وهذا لا يعني أنني أنكر سؤال السلطة كسؤال أساسي حاضر في كل اشتباك بين الإسلامين والواقع وضرورة التفكير في نظام سياسي يحقق عدل الشريعة ويتخلص من استبداد الدولة وفلسفة عملها بالكامل، لكن أنكر التمحور حول الدولة كاتجاه لمشروع الإسلامين 

فكما أن معركة السلطة معركة مهمة في مسار التحرر كذلك هناك معارك أخرى مهمة تخص العدالة الاجتماعية ونشر الوعي بالشريعة ونشر الوعي بقضايا الأمة هناك أيضا معركة العلم كأداة للتقدم وليس كتراكم عقلاني لغايات غير عقلانية وغير إنسانية واستبدادية، إن هدف التحرر ورفع الظلم هو هدف كبير لأمة ظلت تحت نير الاستبداد والمجازر الاستعمارية طيلة أكثر من قرنين لكن ما يمكن أن يخبرنا به بيرك حيال ذلك أن الأفكار المؤسسة لذلك التحرر يجب أن تُختار وتُدرس بعناية حتى لا تنتج نفس الأشكال من الاستبداد كما حدث في الثورة الفرنسية ولكن بيدباجات مختلفة.