قضايا وآراء

احتكار المجال العام

1300x600
قبل يناير 2011 بسنوات؛ كان المجال العام للعمل السياسي وغيره مقتصرا على مجموعات قليلة، ربما تكون معروفة بالاسم لنا جميعا، وقبل ذلك بأعوام قليلة، تتراوح بين ثلاثة أو أربعة، بدأ البعض في منافسة تلك الكتلة المحتكرة للمجال العام، وكانت تلك الكتل لا تنتمي للتيار الإسلامي، حيث حصر التيار الإسلامي نفسه في الجماعات ذات التاريخ والتنظيم مع بعض الأحزاب التي تحمل صبغة إسلامية، ولكن لم يكن لها عمق شعبي كبير، وهؤلاء المنافسون - على المستوى السياسي - مثل حركة 6 إبريل والاشتراكيين الثوريين، والذين بدأ ظهورهم القوي في الفترة نفسها تقريبا؛ وغيرهم من الحركات التي بدأت في ملء مساحات من المجال العام ذي المساحة الضيقة التي يحاول النظام احتواءها، واستطاعت تلك الحركات زيادة مساحة المجال العام للمجتمع من الناحية السياسية، رغما عن الدولة، وهذا بصرف النظر عن قناعات البعض بطبيعة تلك الحركات وتوجهاتها.

بعد يناير 2011، انكسرت الحدود التي فرضها النظام على المجال العام، واندفع مئات الآلاف بداخله، ولم تكن الثورة المضادة بالسذاجة التي تسمح بخسارته، فدفعت برجالها في كل مكان لتملأ أكبر مساحة ممكنة، ولكنها عجزت عن احتلاله لاندفاع كتل مجتمعية ضخمة لم يستطع أحد احتواءها، واستطاعت كسر احتكار ما قبل 2011 بشكل كبير، مما أدى إلى صعوبات كبيرة في تمرير أي قرار، سواء للمحتكرين من جانب السلطة المتمثلة في العسكر أو الجانب الآخر من المحتكرين على الجانب الآخر من القوى المعارضة. فَطَنَ النظام إلى خطورة الوضع، وكان ما حدث في محمد محمود وما بعده بصورة كارثية، في رابعة وما تلاها، محاولة لإخراج تلك الكتل الكبيرة غير المؤطرة تنظيما وليست تحت السيطرة؛ من المجال العام مرة أخرى، وإرجاع الوضع إلى ما كان عليه قبل 2011.

نجحت تلك المحاولة بنسبة ليست قليلة، إلا أن باقي تلك الكتلة التي استطاعت البقاء واستطاعت تكوين بدايات خط فكري تمكنت من صناعة توجه بأفكارها داخل المجال العام ينمو يوما بعد يوم، وأصبحت القوى التي انسحبت من المجال العام هي الاحتياطي الاستراتيجي للثورة، وبدأت تشكل خطرا على النظام فهي كما قلنا خارج السيطرة كما أنها بدأت تكسر احتكار القوى التقليدية للقرار.

من الصعب أن تمضي زمنا طويلا يمكنك التحكم في مسار الأحداث ثم يصبح هذا صعبا، فقد كانت كلمات أو حتى مجرد إشارة من محتكري المجال العام من أطراف عدة من داخل القوى المجتمعية؛ كفيلة بإنهاء أي أزمة وكان النظام يدرك ذلك، وبالتالي مهما كان الموقف صعبا فهناك دائما احتمال لحل ما. أما الآن في وجود تلك الكتلة التي كسرت الاحتكار فهناك مشكلة يجب حلها وبسرعة.

قام النظام بما عليه من المجازر المتتابعة وعشرات الآلاف من المختطفين، ولكن لم ينجح تماما، وأصبحت تلك الكتلة تمثل خطرا على النظام من ناحية، وعلى احتكار المجال العام المعارض من ناحية أخرى، وأصبح العبء الأكبر الآن بعدما قام النظام بما عليه؛ أصبح على عاتق محتكري المجال العام أن يستعيدوا الوضع كما كان قبل 2011.

فالعودة إلى ما قبل 2011 ليست فقط في صالح النظام الذي يستطيع التعامل مع الاحتكار بكافة أشكاله، ولكنها بالتأكيد في صالح المحتكرين الذين آمنوا إيمانا مطلقا بعد طول الاحتكار أنهم أكثر قدرة على حل الأمور وحماية المجتمع من الانفلات الناتج عن المجموعات الجديدة.

استخدمت كتلة الاحتكار أدواتها جميعا في محاولة لإخراج الكتل الأخرى من المجال العام، فمنعتها من منابرها الإعلامية واستأثرت بها وحدها، وتستخدم تراثها وتاريخها وحجم الثقة بها في تشويه الشخصيات البارزة في الكتل الجديدة. ربما لم تنجح تلك المحاولات حتى الآن، وأرى أن الكتل الجديدة استطاعت تجاوز النقطة الحرجة، بحيث يصعب القضاء عليها، ولكن لا بأس من محاولة تأخيرها قليلا، أو ربما يكون استمرار المحاولات يحقق نجاحا بالإطاحة بها.

كما تستخدم الكتل الاحتكارية قدراتها المادية في حصار الكتلة الجديدة، وما انتشر أخيرا عما يحدث في السودان وغيرها من الأقطار من ممارسات محزنة تجاه الشباب من الكتل الجديدة بواسطة رجال الكتل الاحتكارية من أطراف عدة؛ هو تأكيد على نفاد صبر المحتكرين مما يحدث، ورغبتهم الشديدة في العودة إلى ما قبل 2011 أو حتى قبل ذلك.

إن نجاح الطرفين، سواء النظام القمعي في مصر أو المحتكرين للمجال العام، مع التأكيد على اختلاف الدوافع وتوافق الأهداف، لإعادة شكل المجال العام إلى ما قبل 2011 هو السبيل الوحيد لضبط مسرح العمل بالشكل الذي يستطيع الطرفين العمل به، فالأول يريد الحفاظ على نموذج معين لشكل السلطة لا ينازعه فيه أحد، والثاني يؤمن نتيجة مقدمات كثيرة وأسباب معقدة أنه يدرك الصواب ولا يمكنه تصديق أو تخيل أن أحدا من المجتمع يعارضه فيه؛ فطول الأمد يُثبِّت قناعات بعقول المحتكرين لا يمكن لأحد تغييره.

ولكنني أستطيع أن أؤكد تجاوز المجتمع لاحتكار البعض للمجال العام بالإصرار على التوجه الصحيح مهما كانت العقبات ومحاولات التشويه، وستنشأ قوى مجتمعية لا تحمل معوقات التنظيمات العميقة في التاريخ والجغرافيا، وعلى راغبي الاحتكار التوقف الآن وليس غدا؛ لأن السيف قد سبق العذل، وتطور الأحداث في المنطقة كلها وربما العالم أسرع بكثير من محاولات العودة إلى الاحتكار.