قضايا وآراء

لبنان: بحث عن حكومة.. والفقر يضرب كل شيء

محمد موسى
1300x600
1300x600
الخواء يضرب كل شيء في لبنان بعد انفجار المرفأ من جهة، وحكم المحكمة الخاصة بلبنان من جهة أخرى، وتقرير الأسكوا الذي ضرب صلب الحقائق في الصميم، من جهة ثالثة، مضافا إليه الخواء الحاصل في البحث عن رئيس حكومة تحمل شخصيته وسيرته المواصفات الإنقاذية التي ينشدها اللبنانيون ومعهم المجتمع العربي والدولي، وفي مقدمتهم الدولة الفرنسية التي حضرت بثقلها وعديدها ورسمييها، وعلى رأسهم الرئيس ماكرون الذي قال كلمته للسياسيين اللبنانيين في قصر الصنوبر (مقر السفارة الفرنسية) ومضى.

الإصلاحات.. ولكن..

لقد أودع الرئيس الفرنسي ترياق المرحلة لمن ألقى السمع منهم وهو شهيد، والذي عنوانه العريض الإصلاحات بكل ما تتضمنه من مكامن في الجوهر على كافة الصعد، من قطاع الكهرباء، إلى فائض القطاع العام وكلفة خدمة الدين والاستنزاف الحاصل في المالية العامة، ودفع العجلة لكل القطاعات الحيوية وفي مقدمتها المصارف، وبعث الحياة في نفوس اللبنانيين للعودة إلى نشاطهم وحياتهم، ووصولهم إلى ودائعهم عبر قوننة السحوبات و"كابيتال كونترول" عادل. وأولا وأخيرا التفاهمات على الأساسيات، حيث لا ترف في هدر الوقت والمماطلة والمماحكة من هنا وهناك، حيث لا زالت كلمات وزير الخارجية الفرنسي لودوريان حاضرة في جدار كافة المقرات الرسمية اللبنانية: ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم. ولكن على ما يبدو من خلال التوجهات المعلنة والمضمرة والمسربة "أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي".

الأسكوا أرقام صادمة...

وضمن المسار نفسه، تدق لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا (الأسكوا) ناقوس الخطر الاقتصادي، حاملة في تقريرها الأخير صرخة مدوية للحال وما هو قادم.

لقد صرحت الأسكوا أن لبنان بلد أنهك اقتصاده لحدود تسبّبت بقفزة غير مسبوقة في معدّلات الفقر. فبحسب التقديرات، تضاعفت نسبة الفقراء من السكان لتصل إلى 55 في المئة في عام 2020 بعد أن كانت 28 في المئة في عام 2019، وارتفعت نسبة الذين يعانون من الفقر المدقع بثلاثة أضعاف، من 8 في المئة إلى 23 في المئة، في الفترة نفسها!

يشير التقرير إلى أن العدد الإجمالي للفقراء من اللبنانيين أصبح يفوق 2.7 مليون بحسب خط الفقر الأعلى (أي عدد الذين يعيشون على أقل من 14 دولارا أمريكيا في اليوم). وهذا يعني عمليا تآكل الطبقة الوسطى بشكل كبير.

كم تساءلنا سابقا مع كارثة المصارف وانكشافها الهائل: من يريد ضرب الطبقة الوسطى في لبنان؟ من يريد حرمان الطبقة الوسطى من تعليم أبنائها بطريقة تليق للوصول بهم إلى بر الأمان، من يسعى إلى قتل الأحلام وتقزيم التوقعات في حياة كريمة للناس البسطاء؟!

ويؤكد التقرير انخفاض نسبة ذوي الدخل المتوسط إلى أقل من 40 في المئة من السكان. وليست فئة الميسورين بمنأى عن الصدمات، بل تقلّصت إلى ثلث حجمها هي أيضا، من 15 في المئة في عام 2019 إلى 5 في المئة في عام 2020.

والسؤال الذي يفرض نفسه من المعنى الاقتصادي البحت، إذا لم تتحرك ودائع الميسورين والطبقة الوسطى، كيف للاقتصاد أن ينتعش أو يشهد نمو في حال استمر إقفال المؤسسات وانهيارها وانعدام عملية التمويل؟ فهل إلى خروج من سبيل؟!

إن أولى الخطوات تبدأ مع الناس والاقتصاديين والمستثمرين في خلق مناخ سياسي وأمني ومالي سليم، ولكن حتى الساعة لا شيء إلا الصراخ في برية من لا يسمع ولا يرى ولا يفعل؛ إما ضعفا أو خوفا، ولكن المجهول القادم في استمرار هدر الوقت قاتل بامتياز.

كذلك سجّل لبنان أيضا أعلى مستويات التفاوت في توزيع الثروة في المنطقة العربية والعالم. ففي عام 2019، بلغت ثروة أغنى 10 في المئة ما يقارب 70 في المئة من مجموع الثروات الشخصية المقدَّرة قيمتها بحوالي 232.2 مليار دولار. إلا أن التفاوت الشديد في توزيع الثروة سيستمرّ بل وسيزيد، في حين ستنخفض هذه الثروات بفعل الانهيارات الاقتصادية الحاصلة جراء كورونا والأزمات المستفحلة من كل حدب وصوب، على إثر الصدمات المتعددة والمتداخلة في واقع مرير، ولكن الخروج منه ليس بالمنال الصعب إذا توافرت الإرادات والتواضع لأجل لبنان الشعب والدولة والناس البسطاء الذين تكسرت آمالهم منذ فترات طويلة؛ إلا من الأمل في المغادرة إلى أصقاع الأرض بحثا عن أبسط مقومات الحياة!

الخير موجود

إن هبّة اللبنانيين من المجتمعات المحلية ملفت دائما، ورغبتهم في تجاوز المآسي جزء من روح اللبناني المتمردة للبقاء، ولكن هذا لا يكفي فقط، لذلك محقة كانت الأمينة التنفيذية للأسكوا، رولا دشتي، حينما قالت إنه لا بد من إنشاء صندوق وطني للتضامن المجتمعي، لأنه ضرورة ملحة لمعالجة الأزمة الإنسانية وتقليص فجوة الفقر. ودعت أيضا الجهات المانحة الدولية إلى توجيه الدعم نحو تأمين الأمن الغذائي والصحي، وتعزيز الحماية الاجتماعية.

بورصة رؤساء الحكومة

انطلاقا من تقرير الأسكوا، تبدأ رحلة البحث عن رئيس حكومة قادم في مهمة شبه مستحيلة اقتصاديا وسياسيا. فليس بالهيّن الوصول إلى شخصية ترضي الجميع في زمن الضياع الحاصل لبنانيا، حيث تأرجح حظوظ الرئيس سعد الحريري للوصول؛ إذ يعتبره الشارع من الوجوه القديمة، في حين قد لا يكون في الطائفة السنية الكريمة سواه؛ من حيث التمثيل ضمن الطائفة والقدرة التجييرية والقبول السياسي الداخلي لدى معظم القوى المحلية، وفي مقدمتها حزب الله الذي أعلن ذلك عبر حديث متلفز، كذلك الرئيس بري الذي يدفع منذ فترة لعودة الحريري إلى السراي، والرغبة الدولية في عودته لما يشكله من رافعة اقتصادية وحضور على المستوى الدولي، علما أن حظوظ أسماء أخرى لا تزال واردة، كالسفير نواف سلام. ولكن ماذا عن الكثير من القوى المحلية التي لا تقبل السفير سلام وترى فيه وجها أمريكيا بحتا؟ كذلك يطرح في بعض الأوساط الوزير السابق خالد قباني، وهو من الوجوه النظيفة التي عملت في القضاء والشأن العام، ولكن لا تحمل الغطاء الشعبي والطائفي في ظرف بمنتهى الحساسية محليا.

إن بورصات الأسماء مهما تعددت يبقى المهم برنامج الحكومة الذي سيخطه هذه المرة المجتمع الدولي بندا بندا، حيث الحديث القديم الجديد عن لا أموال بلا إصلاحات، ولا إصلاحات بلا حكومة فاعلة، ولا حكومة فاعلة بلا دعم دولي، ولا دعم دوليا بلا تفاهمات في الخارج والداخل، ولا تفاهمات في الداخل والخارج قبل الانتخابات الأمريكية القادمة، حيث سيد البيت الأبيض الجديد يرسم مسارات الشرق الأوسط في السنوات الأربع القادمة مع إيران وملفاتها المتشعبة في كل المنطقة، من الملف النووي إلى اليمن والعراق وبيروت، مرورا بصفقة القرن وشكل الإقليم كله، مضافة إليها تعقيدات شرق المتوسط وثرواته التي ستكون أحداثها حاسمة في القابل من الأيام، خصوصا مع التجاذب الفرنسي التركي؛ صاحب الدور الحيوي في السياسة الدولية والإقليمية مع تعدد المهام والأهداف وتضاؤل القدرة بحسب الكثيرين.

الفرصة الأخيرة للجميع

لبنان على أبواب الفرصة الأخيرة دوليا وعربيا وحتى شعبيا محليا على ما يبدو، لذا بات أكثر من الضروري تنفيذ ما يلزم من إصلاحات على مستوى الحوكمة الاقتصادية على كافة القطاعات وفي مقدمتها الكهرباء، والحد من الأنشطة الريعية، وتعزيز الشفافية والمساءلة، والعمل على تعزيز الثقة من الداخل والخارج بأي حكومة قادمة وأي يكن رئيسها، حيث الثقة مفتاح الحل للمعضلة اللبنانية في زمن لا ثقة في من الداخل والخارج على حد سواء.

ببساطة شديدة يجب أن تكون المسؤولية مشتركة وعادلة، والإصلاحات أكثر إنصافا، وأن تتوفر إرادة سياسية حقيقية بلا مواربة ومناورة وتذاكٍ على اللبنانيين الذين ملّوا كل شيء، حيث هدر الوقت الحاصل قاتلٌ بكل المقاييس والأعراف اللبنانية التي عنوانها التسويات التي حكمت البلاد منذ النشوء حتى يومنا هذا. فهل بعد مئة عام على لبنان الكبير من تدارك لبلوغ تسوية مع تواضع جميع الأطراف لأجل لبنان الجريح ورأفة باللبنانيين؟!!
التعليقات (0)