قضايا وآراء

عوائق الالتقاء التاريخي في مواجهة الانقلاب التونسي

سمير ساسي
1300x600
1300x600
الآن وقد تمايزت الخطوط وصرنا إزاء فريقين يختصمان، الرئيس سعيد بفريقه المجهول عند الناس، المختفي وراء حجب كثيفة.. وخلف الرئيس إذا نطق أو تحرك، فلا مستشارين للرئيس ولا ناطق رسميا باسمه ولا وزراء ولا حزب يسنده بكل وضوح سوى ما يقول إنه الشعب الذي يريد.. من هذا الشعب الذي يريد يخرج فريق آخر يقول: أنا شعب أريد لكن غير ما يريده سعيد وشعبه، وهنا العقدة.

في الثاني والعشرين من أيول (سبتمبر) الجاري كشف الفريق الأول بقيادة سعيد المفرد في صيغة الجمع رؤيته وأعلن أنه سائر في طريق الحكم الفردي المطلق فبيده الأمر كله والسلطات جميعا والحكم بالمراسيم.

وضوح أزعج الفريق المقابل وأقلق حتى الذين كانوا يتوهمون أنهم في صف سعيد من أحزاب تجاهلت عمدا أن الرئيس سعيد لا يؤمن بالأحزاب أصلا.. انزعاج أفرز حراكا حزبيا ومجتمعيا وحقوقيا جمعته كلمة لا للانقلاب على الديمقراطية، كان هذا الشعار الجامع ومازالت آلية التنفيذ غير مكتملة، هناك بيانات ومواقف وحراك في الشارع.. لكن ماذا بعد؟

لا وحدة تجمع أصحاب الشعار فهم مختلفون فكريا وسياسيا، لذا وجب أن يبحثوا عن لقاء أو التقاء فوق أيديولوجي يتعالى عن الاختلافات المعقدة والتي يصعب تفكيكها ليلتقي فقط على مهام مرحلة تاريخية الآن، وهنا تفرضها أحداث وتطورات سياسية ومجتمعية كالحرب مثلا، وهذا تعريف بسيط لتشكل الكتلة التاريخية.. فقد تجتمع كتل وأحزاب مختلفة جذريا في جبهة تحرير وطني تشترك في الحد الأدنى من مبادئ التحرير. أو مواجهة الاستبداد والنضال من أجل الحريات والديمقراطية..
 
لا تعرف المنطقة العربية نجاحا كبيرا لهذا النمط من الالتقاء الذي يعبر عن تفكير عميق وإرادة وطنية حرة.. بل لسنا نبالغ إن قلنا إنها شبه منعدمة، فإذا ما خصصنا تونس من هذه المنطقة وجدنا أن التقاء تاريخيا سجل زمن حكم النظام المخلوع ابن علي تحت مسمى 18 تشرين الأول (أكتوبر) للحقوق والحريات جمع إسلاميين ويساريين التقوا على النضال من أجل الحريات وطرحوا نقاشا  ثقافيا وفكريا، لامس قضايا خلافية معقدة بين اليسار والإسلاميين مثل قضايا المرأة. 

قُدّم التجمع هذا على أنه تجربة تاريخية فريدة، وهي كذلك لو أن أصحابه أسسوا بعمق للقضايا المجتمعية، لكن يبدو أنهم كانوا مستعجلين في أي اتجاه لا نعلم، فقد أدركتهم الثورة ولم يصمدوا أمام تحدياتها الجديدة، ولو صمدوا لكان لتونس الآن وضع مختلف استثنائيا بأتم معنى الكلمة.

غلب الطبع التطبع وعاد كل فريق إلى موقعه الأيديولوجي، وفرقتهم السياسة والثقافة والمجتمع وكل شيء، وجرى في النهر ماء كثير من سياسة وانتخابات وصراعات حتى كانت لحظة قيس سعيد الرئيس الذي كان يدبر للقضاء على الثورة والديمقراطية من داخلها. 

لم ينتبه لتخطيطه أحد، فالجميع الذي كان قد التقى من قبل منشغل منذ تفرقه في تعميق الانقسام وصب الملح على الجرح حتى أنهم غفلوا عن قراءة مؤشرات عديدة أوحى بالاتجاه نحو انقلاب سعيد على الدستور.. لا أحد قرأ هذه المؤشرات بدلالاتها الصحيحة حتى يدرك أن الرجل كان يتحين الفرصة للانقضاض، وقد أجاد الاختيار أو اختير له. 

ليس هذا مهما الآن فالأمر قد وقع، وها هو سعيد يتجه إلى حكم ملكي مطلق أو نظام فاشي شعبوي لا حدود لسلطانه ومازال وعي معارضيه لم يرتق بعد للقاء التاريخي المطلوب.. لماذا؟

العامل الرئيس هو موقع الأطراف التي التقت قديما من الحكم بعد الثورة فقد صاروا حكما ومعارضة، وهو أمر بديهي لكنه في تونس وعند العرب عموما ليس الأمر كذلك، وهذا وجه التعقيد.. فقد أورثت هذه المواقع واقعا مريضا ومعقدا اتسم بتعميق التنافي، إذ يزعم المعارضون أن أصدقاءهم الحكام الجدد خانوا الجماهير ولم يلتزموا بشروط اللقاء التاريخي.. ويروج الحاكم منهم أن معارضيه لم يكونوا على قدر المسؤولية التاريخية لممارسة معارضة جادة وبناءة وإنما كانوا يمارسون معارضة تدميرية، انتهى الأمر فيها إلى انقلاب سعيد على الجميع عازما ضرب كل الوسائط بينه وبين الجماهير من أحزاب ونقابات لكن هؤلاء مازالوا غير مدركين لهذه الخطورة .

تقدم سعيد خطوة أخرى أخطر بإعلانه مواصلة حالة الاستثناء ونيته تعديل الدستور، وقد فسر الجميع بأن سعيد قرر عمليا تعليق الدستور، ورغم ذلك ما يزال الجميع غير جاهزين للالتقاء التاريخي .

العقدة والحل 

نعتقد أن العقدة هي العلاقة مع "النهضة"، وهذا يقوله الجميع بمن فيهم أبناء "النهضة"، كيف ستكون هذه العلاقة؟ في الحقيقة هي موضوع إشكالي لم نر من نفذ إلى عمق إشكاله فالجميع تقريبا وقف عند ظاهر المشكل من أن "النهضة" مسؤولة عما وصل إليه الوضع في تونس وأن أي تقارب معها الآن قد يفسد اللقاء ومواجهة الديكتاتورية القادمة على عجل.. عمق الإشكال أن هذا النقد الموجه "للنهضة" هو نقد غير بريء أخلاقيا ولسنا هنا في وارد الدفاع عن النهضة وإنما في وارد التنبيه إلى الأخطاء المنهجية التي تعيق لقاء تاريخيا مطلوبا للقوى الوطنية لمواجهة الاستبداد ومشاريعه .

من أين ينبع غياب البراءة؟

الناقدون فريقان: فريق لا يؤمن بحق "النهضة" في الوجود أصلا وهو إقصائي غير ديمقراطي فشل طيلة التاريخ السياسي الراهن للدولة التونسية في إقناع السلطة أو الشعب بإخراج "النهضة" نهائيا من المشهد لكنه نجح في شيطنتها، وهو الآن يمارس دور التماسيح التي تذرف الدموع على تجربة لا يؤمن بها من حيث المبدأ، وينبه إلى أن عقدة المحافظة على الديمقراطية هي ابتعاد "النهضة" عن المشهد، يقولها بلطف ودون تشنج عرف عن خطابه القديم حتى يقنع الرافضين "للنهضة" من الفريق الثاني بصوابية موقفه، ويواصل في الوقت نفسه تحميل "النهضة" المسؤولية كاملة عن الأزمة.

مشكلة الفريق الثاني من الناقدين أنه يحمل "النهضة" مسؤولية ما قبل الخامس والعشرين من تموز (يوليو) الماضي تحميلا كاملا دون تنسيب، ولا حتى اعتراف بدور ما له أو لغيره في الأزمة المركبة التي عاشتها تونس قبل الثورة، فما وقع لا يمكن بأي حال أن تكون "النهضة" وحدها أو أي حزب مسؤولا عنه بمفرده.. هذا من حيث المبدأ فضلا عما تؤكده الأرقام والمعطيات في نسب الوزراء في الحكومة أو الرئاسات الثلاث أو المسؤولين في إدارات الدولة..
 
هذا النقد على صدق أصحابه يتقاطع مع النقد الإقصائي السابق وهو ما يزعج الإسلاميين ووطنيين آخرين يخشون أن يكون ذلك عائقا دون الالتقاء التاريخي.

ويعترض معترض هنا عن جدوى الإصرار على حضور "النهضة" بصرف النظر عن الناقدين وأهدافهم وهو اعتراض وجيه ينطلق من مبدأ المصلحة الوطنية بعيدا عن الحسابات السياسية. ونرد عليه بأن ذلك ممكن الاعتبار لو صدر من "النهضة" نفسها بأن تقرر في إطار مراجعاتها أن تنسحب من المشهد تسهيلا لعمل وطني مفترض لأن الديمقراطية تقتضي الاعتراف بحق الجميع في المشاركة إلا من ثبت تورطه في محاربة الديمقراطية والجميع.. 

هنا يمكن أن يكون بريئا أو متهما بدرجة متساوية، وهو ممكن أيضا في حال وجدت ضمانات أن لا يكون المطلب إقصاء متخفيا.. والضمانات أمر لا يمكن "ضمانه" في اللعبة السياسية فسوء الظن من حسن الفطن خاصة في التجارب الديمقراطية الوليدة.. أفضل حل لهذه المعضلة أن يترك الجميع الجميع لشؤونهم الداخلية يراجعون أو يغيرون قياداتهم وأن يبحثوا عن مشترك أدنى يلتقون عليه، فأن ترفض بعض الأحزاب اللقاء مع الغنوشي مثلا لا يخول لها فرض تغييره على قواعد "النهضة" لكن يمكنها أن تطلب اللقاء مع من يمثل "النهضة" وكفى والعكس صحيج.. فهل يعي الجميع حساسية المرحلة؟

التعليقات (0)