كتب

اليمين الإسرائيلي الجديد من الهامش إلى مركز المشروع الصهيوني.. كتاب جديد

الإنجيليون يفهمون علاقتهم باليهود انطلاقا من فكرة أساسية هي أن إسرائيل تقع في مركز المعركة الإلهية بين الخير والشر..
الإنجيليون يفهمون علاقتهم باليهود انطلاقا من فكرة أساسية هي أن إسرائيل تقع في مركز المعركة الإلهية بين الخير والشر..
الكتاب: اليمين الجديد في إسرائيل، مشروع الهيمنة الشاملة
المؤلف: مجموعة مؤلفين
الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع


يناقش مجموعة من الباحثين الفلسطينيين في هذا الكتاب، تحولات وتطورات حالة التطرف التي تشهدها إسرائيل، وتغلغل العنصرية في مستويات مختلفة في الدولة في ظل تعزز الشعبوية العالمية، وما يتركه ذلك من آثار كبيرة على مستقبل الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، حيث يقدم الفصل الأول من الكتاب تأطيرا نظريا وسياقا تاريخيا لليمين الجديد، وصعوده في السياق العالمي وتقاطعاته مع إسرائيل فكريا وسياسيا، يتبعه بحث في ظاهرة اليمين الجديد في إسرائيل ومحاولة لتأطيرها ضمن الخلفيات الأيديولوجية الصهيونية وبنيتها الفكرية وتحولاتها، مع التركيز على أهم التيارات والأحزاب والجماعات التي تمثله وتلك التي تدعمه.

بينما يلقي الفصل الثاني من الكتاب الضوء على الجمعيات والمنظمات اليمينية الناشطة ودورها في ضبط الخطاب العام وتعزيز الاستيطان، ويناقش التحولات التي تمر بها الصهيونية الدينية وظهور تيارات جديدة كالحردلية ودلالات صعودها. ويتناول الكتاب أيضا علاقات الإنجيلية الصهيونية في الولايات المتحدة مع إسرائيل، والعلاقة بين الصهيونية الجديدة واليمين الجديد والتفاعل بين الظاهرتين.

في تقديمها للكتاب، تلفت أستاذة علم الاجتماع هنيدة غانم إلى أن المشروع الصهيوني يعيش اليوم لحظة تحول مهمة، ومخاض انتقاله من مشروع دولة إسرائيل التي تدير الاحتلال وتعمقه إلى مشروع أرض إسرائيل الذي يوظف الدولة من أجل حسم الصراع مع الفلسطينيين، وتحقيق مشاريعه القومية والاجتماعية. وتقول؛ إن صعود أقصى اليمين الجديد في إسرائيل يشكل جزءا من ظاهرة عالمية، يتشارك معها ميزة تطبيع التطرف ومركزته، كما يتقاسم معها الأيديولوجية القومية المتعصبة والنزعة الشعبوية وكراهية الآخر ومعاداة قيم الليبرالية. وهو إلى ذلك لديه مميزات خاصة بسبب السياق الاستعماري الاستيطاني، وينطوي على آثار كارثية على الشعب الفلسطيني.

كما أن هذا الصعود يرتبط بالتطور الجدلي للمشروع الصهيوني في ظل التحولات الديمغرافية والاجتماعية في مجتمع المهاجرين-المستوطنين، التي أفضت إلى خلخلة بنية النخب الصهيونية المؤسسة، وصعود قوة الجماعات التي كانت على هوامش المشروع الصهيوني. فهناك "مستعمرون مؤسسون" أولئك الذين أنشؤوا المشروع الصهيوني وسكّوا مفاهيمه وصولا إلى إقامة الدولة اليهودية في العام 1948، وهم من وضعوا دين الدولة المدني وقادوا عملية استجلاب المهاجرين، ودفعوا باتجاه صهر هؤلاء في هوية إسرائيلية تحاكي تصوراتهم الغربية الحداثية العلمانية، وقد شكلت هذه الجماعة نخبة الطبقة الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية.

وهناك "مستعمرون مستجدون" يمثلون بالأساس الجماعات التي التحقت بالصهيونية بعد إقامة إسرائيل، وهم لا يتمتعون برأس المال الرمزي الذي يتمتع به المؤسسون، وتضم هذه المجموعة فئات واسعة من الشرقيين _خاصة من أبناء الطبقات الاقتصادية الأقل حظا والمحافظة_، والحريديين وتيار الصهيونية الدينية، وهم يشكلون اليوم المخزون الانتخابي الأساسي لمعسكر أقصى اليمين الجديد الحالي.

وفي مقابل علمانية المؤسسين التي يصارعون للدفاع عنها، تتحول المبالغة والتمادي في الخطاب والممارسة، عند أقصى اليمين الجديد، إلى جزء لا يتجزأ من أدوات العمل في الصراع على الحكم والهيمنة. فهو يدفع دولة أكثر يهودية، ويهودية أكثر قومية، وقومية أكثر يهودية، ويدفع إلى الحسم مع "العدو الفلسطيني"، وإقامة السيادة الكاملة والصلبة في "أرض إسرائيل".

تقول غانم؛ إن الصهيونية المستجدة تمارس دورا يخلط بين ممارسة المستعمر الطلائعي الذي يقود عمليات الاستعمار في الجبال والهضاب في الضفة الغربية، والمستعمر الدولاني الذي يتخذ من أدوات الدولة المؤسساتية والقانونية روافع لتحقيق مشروعه. لذلك فإن ممارساته التي تستفيد من قوة الدولة وموروثها الاستعماري، تتحول إلى ممارسة أكثر مشهدية مقابل الفلسطيني، وتتخذ شكل انفلات الجماعات الاستيطانية المتطرفة كما جرى في حرق بلدة حوارة. وتتحول المغالاة إلى أداة المستعمر المستجد الذي تجاوز المستعمر المؤسس، بما يعمّد دوره في "السردية القومية الكبرى" ويموضعه في تاريخها، ليس كهامشي ملتحق بل كفاعل نشط. مع ذلك تنبه غانم إلى أن اليمين الجديد تشكل وتطور في سياق الصهيونية المؤسسة، التي انطوت على بذور الأصولية بمجرد ارتكازها على علمنة الدين، وتحويل القصص التوراتية إلى خطة عمل معتقدة أنها يمكن أن تتحكم دائما بوجهتها.

السيادة كشعيرة دينية

في فصل آخر من الكتاب، يقدم وليد حباس، الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائلية"مدار"، مساهمة حول تيار "الحردلية" الديني اليميني، الآخذ بالصعود في المشهد الإسرائيلي، الذي ينتمي إليه وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش. حيث يتتبع تاريخ نشوء هذا التيار من داخل الصهيونية الدينية، ويرصد أهم ملامح هذا التيار، مع التركيز على أسس هويته الدينية وانعكاساتها على الحياة السياسية داخل إسرائيل، متوقفا عند مجالات تدخل الحردليين في الحيز العام للمجتمع الإسرائيلي وأهم مؤسساتهم الفاعلة.

خلافا للأحزاب السياسية الصهيونية، فإن انضمام الحريديم إلى معسكر اليمين لا يستند إلى موقف أيديولوجي، أو أجندة سياسية واضحة، بل هو ناجم بالأساس عن احتياجات هذا الجمهور للحفاظ على وضعيته القائمة، باعتباره جمهورا منغلقا على نفسه، ويريد الحفاظ على خصوصيته.
وابتداء، يوضح حباس أن "الحردلية" مصطلح عبري مشتق من كلمتين: الحريدي (المتزمت دينيا) والليئومي (الصهيوني القومي الذي ينشغل بالسيادة اليهودية السياسية على "أرض إسرائيل"). ويشرح حباس أن هذا التيار الذي يؤمن سياسيا بفكرة السيادة اليهودية على"أرض إسرائيل" الكاملة، وضرورة المشاركة الفاعلة في مؤسسات الدولة والجيش؛ بهدف المحافظة على هذه السيادة كشعيرة دينية، يفضل ثقافيا الانغلاق الذي يجنب أتباعه الاختلاط والتأثر بالحياة الإسرائيلية ذات الطابع الأوروبي الحداثي، ومن ثم يرفض الانفتاح على القيم الليبرالية مثل المساواة واحترام التعددية، والمفهوم الحديث للديمقراطية. يقول حباس؛ إن ثمة ثلاث مجموعات في تيار الحردلية تتباين من حيث المجالات، التي تفضل أن تكرس جل اهتمامها للتدخل فيها، وهي؛ الحردلية الدعوية التي تركز على تعلم التوراة "الصحيحة"، وتأدية الفرائض بحذافيرها، ومن ثم توزع اهتمامها على منظومة التعليم الديني، وبنية العائلة، والأحوال الشخصية، ووظيفة النساء في المجتمع الإسرائيلي. وهناك الحردلية الثقافية، وتتمثل بظهور تيار من الفنانين والشعراء الذين يسعون لتطوير محتوى فني ذي هوية إسرائيلية خالصة، غير متأثرة بثقافة "الأغيار".

ثم الحردلية السياسية وهي التيار اليميني الجديد الأكثر تطرفا، وتطورت بشكل ملفت في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، الذي تم تصويره على أنه خراب لحق بالخطة الإلهية لتجميع اليهود على أرض إسرائيل، وعليه انصب التدخل السياسي للصهيونية الدينية بشكل عام، وللحردليين بشكل خاص، على النزوع نحو الشعبوية ومهاجمة الدولة باستمرار؛ باعتبارها مسؤولة عن "خراب الخلاص" بعد أن "تخلت" عن سيناء عام 1982، ثم عن أجزاء من الضفة الغربية بعد اتفاقات أوسلو، وبعد ذلك بالانسحاب من قطاع غزة ومستوطنات جنين في العام 2005. وعبر ما أطلق عليه الحاخام يوئيل بن نون"استيطان القلوب"، تسعى مجموعات متطرفة من الصهيونية الجديدة، وتحديدا من الحردلية إلى الانتقال إلى قلب المدن الإسرائيلية الكبرى، لنشر التعاليم التوراتية التي تدعو للحفاظ على أرض إسرائيل، وإقامة أنوية استيطانية، بلغت في العام 2016 70 نواة استيطانية، معظمها مسجل كجمعيات خيرية.

ويضيف حباس أن ثمة اعتقادا أن الحردليين يتمتعون بتأثير في الحياة السياسية يفوق وزنهم الانتخابي، ذلك أنهم يرون توزعهم على أكثر من إطار سياسي، بدلا من الانضواء تحت إطار حزب سياسي واحد، سيمكنهم من التأثير على سياسة الأحزاب كلها من جهة وعلى المساهمة في صياغة السياسة العامة للدولة من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك للحردليين إعلام خاص بهم، ويحاولون إدخال صحفيين ومحللين وصناع رأي في قلب المؤسسات الإعلامية القائمة.

من الهامش إلى المركز

ويقدم الصحفي والباحث في مركز "مدار" برهوم جرايسي دراسة حول مجتمع الحريديم، والتغيرات التي طالته وساهمت في تحويله من لاعب سياسي هامشي منشغل بمصالحه، إلى جزء من اليمين السياسي الفاعل، بسبب تحولاته الديمغرافية اللافتة (من بضع عشرات الآلاف في العام 1948 إلى قرابة 1.28 مليون نسمة في العام 2022)، التي انعكست على حضوره في الحيز العام الإسرائيلي وعلى قوته السياسية. ويرى جرايسي أن انزياح الحريديم نحو اليمين مرتبط بالعلاقة التاريخية المتوترة مع العلمانيين الصهيونيين.

وقد تحول الحريديم منذ حكومة نتنياهو الرابعة التي تشكلت عام 2015 إلى جزء محوري، مما يعرف بمعسكر نتنياهو اليميني، فأصبحوا جزءا من شبكة الأمان الداعمة لسياساته الاستيطانية. لكن خلافا للأحزاب السياسية الصهيونية، فإن انضمام الحريديم إلى معسكر اليمين لا يستند إلى موقف أيديولوجي، أو أجندة سياسية واضحة، بل هو ناجم بالأساس عن احتياجات هذا الجمهور للحفاظ على وضعيته القائمة؛ باعتباره جمهورا منغلقا على نفسه، ويريد الحفاظ على خصوصيته.

يتناول الباحث وأستاذ التاريخ مهند مصطفى الصهيونية الدينية بالتحليل، مركزا على التحولات السياسية والفكرية التي مرت بها منذ انطلاقها حتى الآن، وعوامل هذا التحول وسياقاته، والعوامل التي أسهمت في تحول الصهيونية الدينية من تنظيم سياسي صغير إلى تيار فكري كبير، يتجاوز التنظيم السياسي ليكون عاملا مؤثرا في جوهر المشروع الصهيوني وخطابه، مشيرا إلى أن تولي نفتالي بينيت رئاسة الحكومة في 2021 مثال على تحول الصهيونية الدينية من هامش الحقل السياسي الإسرائيلي إلى مركزه. ويرى مصطفى أن هذا الانتقال يرتبط بشكل خاص بتفكك هذا التيار وليس تماسكه، والمقصود بالتفكك هنا عدم وجود حالة تنظيمية عضوية تجمع أبناء الصهيونية الدينية، هو حال المجتمع الحريدي، والتحرر من سطوة حاخامية واضحة، فقد أعطاه هذا التفكك مرونة وقدرة على التحرك، حتى وصول مركز الحقل السياسي الإسرائيلي.

بينما تركز أطروحة الباحث عبدالقادر بدوي على مقاربة نظرية لظاهرة انتشار جمعيات اليمين ومنظماته، لفهم ما يطلق عليه "عملية يمننة المجتمع المدني الإسرائيلي" وجره باستمرار إلى أقصى اليمين، مستعرضا أهم منظمات المجتمع المدني اليمينية، التي يتوزع عملها على مجالات الاستيطان، والصحافة والإعلام، والمجال البحثي، والمجتمع المدني.

الإنجيلية الصهيونية

الباحث المختص بالدراسات الإسرائيلية علاء سلامة يشرح  في فصل آخر من الكتاب، طبيعة التحالف والعلاقة التي تربط بين الإنجيليين في الولايات المتحدة واليمين الإسرائيلي الجديد. ويرى أن الإنجيليين يفهمون علاقتهم باليهود انطلاقا من فكرة أساسية، هي أن إسرائيل تقع في مركز المعركة الإلهية بين الخير والشر، أي إن ألفية المسيح لا يمكن أن تتحقق إلا بوجودها، بمعنى ضرورة تجمع يهود العالم في فلسطين، مستندين في ذلك إلى قراءتهم الحرفية لنص سفر التكوين في العهد القديم.

ويلفت إلى أن علاقة الإنجيليين بفلسطين قديمة جدا، وأفكارهم الصهيونية التي استقوها من الصهيونية المسيحية الإنجليزية أقدم بكثير من الصهيونية اليهودية، كما هي مشاريعهم الاستيطانية في فلسطين لتهيئتها للهجرة اليهودية. ويضيف أنه منذ عشرينيات القرن العشرين، رسخ الإنجيليون لدى معظم الأمريكيين فكرة أن فلسطين هي وطن الشعب اليهودي، وساهموا في التأسيس للدعم الأمريكي للمشروع الصهيوني في فلسطين، ماديا ومعنويا، وسياسيا وشعبيا.

ويقول سلامة؛ إن الإيمان الإنجيلي بضرورة تنصير اليهود من أجل تيسير عودة المسيح، أو الإيمان بأن اليهود، في أحسن الأحوال، سوف يتنصرون عند عودة المسيح، وسيقضي من بقي منهم غير مؤمن بالمسيح، يجعل العلاقة بين الطرفين مستغربة وملتبسة، وهو ما جعل الإنجليين متهمين على مدى عقود بمعاداة السامية، وما جعل أطيافا كثيرة من الصهيونيين اليهود وغير اليهود يتوجسون منهم، ويتعاملون مع دعمهم غير المحدود لإسرائيل بحذر.

إلا أن هذا التناقض، لا يترجم على أرض الواقع إلا دعما لإسرائيل، وهو ما يجد فيه اليمين الإسرائيلي الجديد منفعة تسمح له بالتغاضي عن الأفكار الإنجيلية، التي تعامل اليهود كأدوات في سبيل تحقيق النبوءة. ويمكن ملاحظة التقاطعات بين الطرفين في المواقف الفكرية والعملية، من أهم محاور المشروع الصهيوني والقضية الفلسطينية. على سبيل المثال، فإن الإيمان بأن سيطرة اليهود على فلسطين نابعة من حق إلهي، يضع الإنجيليين في صف اليمين المتدين في إسرائيل وأمريكا في معارضة أي حل يشمل إقامة دولة فلسطينية، أي اتفاق سلام لا تتناسب مع الخطة الإلهية، التي تقود إلى حرب تبلغ ذروتها في هرمجدون، ولا يحل السلام بعدها إلا بقدوم المسيح.

وهم كذلك لا يعدون احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة احتلالا، بل تحريرا للأرض التي وعد الله بها شعبه، ويدعون العالم للاعتراف بضرورة تهويد فلسطين، ولذلك فقد عارض الإنجيليون كما اليمين الإسرائيلي اتفاقات أوسلو، وعدوا أنها إذا ما طبقت وأدت إلى قيام دولة فلسطينية، فإنها ستكون محاولة للقضاء على دولة إسرائيل. يقول سلامة؛ إن الخلاف بين اليهود والإنجيليين لم يعد قائما إلا بخصوص التفسيرات العقائدية لما سيحدث في آخر الزمان من معجزات، هي خارج سيطرة الطرفين في كل الأحوال. فما دامت الخطوات التي يعتقد الطرفان بأنها ستوصل إلى نهاية الزمان متطابقة، فليس بإمكان الأحداث أو المعجزات اللاحقة على ذلك، أن تفسد المصالح المشتركة بين الطرفين في الوقت الحالي.
التعليقات (0)