كتاب عربي 21

استراتيجية واشنطن "الجديدة" للحد من نفوذ إيران

1300x600

لا تنفك الولايات المتحدة الأمريكية عن الإعلان عن بناء استراتيجيات جديدة لمواجهة إيران والحد من نفوذها في الشرق الأوسط، وهي منطقة حيوية لأمريكا لأسباب مادية ورمزية، إذ استندت واشنطن منذ تدخلها في المنطقة إلى استراتيجية نقوم على الالتزام بأمن وحماية "إسرائيل" وضمان إمدادات تدفق "النفط"، الأمر الذي يتطلب خلق حالة صراعية وجودية مع عدو حقيقي أو متخيل يمثل الشر تجسد في المخيال الأمريكي في صورة إيران. تلك وصفة بسيطة تساهم بإعادة تعريف الصديق والعدو، وتؤسس لبناء تحالفات إقليمية تمهد لاستدخال المستعمرة الاستيطانية المسماة "إسرائيل"في نسيج الشرق الأوسط السياسي والاقتصادي.

تستند المقاربة الأمريكية العدائية ضد إيران إلى أن الجمهوية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها 1979؛ تشكّل تحدياً شاملاً لمصالحها وتهديدا واسعا لحلفائها وشركائها في الشرق الأوسط، ولم تخل أي وثيقة للأمن القومي الأمريكي، منذ سقوط نظام الشاه وصعود دولة ولاية الفقيه، من الحديث عن الخطر الإيراني وتصنيف إيران كدولة راعية للإرهاب، فضلا عن كونها دولة "مارقة" تندرج في إطار "محور الشر"، وهي قاعدة استراتيجية كلاسيكية ثابتة عابرة للإدارات، أدت إلى اعتماد ومبدأ "الاحتواء المزدوج" للحد من النفوذ الإيراني. وقد شكل إنجاز الاتفاق حول الملف النووي الإيراني (5+1) بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وإيران من جهة أخرى، في تموز/ يوليو 2015، الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

في هذا السياق، لم يكن غريبا قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في الثامن من أيار/ مايو 2018، بانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الذي تم توقيعه مع إيران في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، فتلك هي القاعدة الأساسية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط التي تقوم على اتخاذ كافة الاجراءات لحماية المستعمره اليهودية في فلسطين، وضمان تقوق دولتها المدعوة "إسرائيل"، وذلك في سياق الالتزام الدولي (الغربي) بالتفوقية اليهودية، حيث يعتبر اليهود كأوروبيين بيض يدافعون عن القيم والحضارة الأوروبية البيضاء ضد قطعان العرب البدائيين.

في أول خطاب رئيسي عن السياسة العامة لمايك بومبيو منذ توليه منصب وزير الخارجية، بعد أسبوع من إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق الذي وقعه سلفه باراك أوباما مع إيران والقوى العالمية، أعلن بومبيو في 21 أيار/ مايو 2018، خلال ندوة بمؤسسة هيريتييج، عن استراتيجية بلاده تجاه طهران، وقال إن"الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تقوم على سبعة محاور للتعامل مع إيران"، مؤكداً أن الضغط الاقتصادي هو الجانب الأبرز من الاستراتيجية الجديدة تجاه إيران، ومشدداً على أن إيران ستتعرض للعقوبات الأكثر قسوة في التاريخ إذا واصلت سياساتها.

 

يبدو أن بومبيو أكثر تشدداً وحزماً من رئيسه ترامب وهو يعرض "الاستراتيجية الجديدة" لبلاده في إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي


يبدو أن بومبيو أكثر تشدداً وحزماً من رئيسه ترامب وهو يعرض "الاستراتيجية الجديدة" لبلاده في إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، إذ لخصها بالقول: "لن يكون لإيران مطلقاً اليد الطولى للسيطرة على الشرق الأوسط". لكن بومبيو لم يغلق الباب إمام إيران بالمطلق، وأبدى انفتاحاً إزاء النظام الإيراني، قائلاً إنه مستعد للتفاوض معه على "اتفاق جديد" أوسع بكثير لكن أكثر صرامة، بهدف "تغيير سلوكه". وأضاف: "في مقابل القيام بتغييرات كبيرة في إيران، فإن الولايات المتحدة مستعدة" لرفع العقوبات في نهاية المطاف و"إعادة جميع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إيران" و"دعم" الاقتصاد الإيراني. وأوضح بومبيو أن هذا لن يحدث إلا بعد "تطورات ملموسة يمكن التثبت منها مع مرور الوقت". وحدد قائمة تضم 12 شرطاً قاسياً للتوصل الى "اتفاقية جديدة".

في سياق استراتيجية الحد من نفوذ طهران في الشرق الأوسط، شدد بومبيو على ضرورة أن تنسحب إيران من سوريا وتتوقف عن التدخل في نزاعات المنطقة (اليمن) وتمتنع عن دعم ما وصفها بـ"المجموعات الإرهابية". وأن تتوقف عن التدخل في شؤون جيرانها كما هي الحال في العراق أو لبنان، أو أن تهدد الآخرين مثل إسرائيل أو السعودية، واعتبر أن الشروط الاثني عشر "قد تبدو غير واقعية"، لكنها مطالب "أساسية".

ثمة قناعة واسعة الانتشار بأن القرار الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي وما أعقبه من إجراءات سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ضارة للولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة، ولن يحقق أهدافه المنشودة، ذلك أن الإيرانيين يعرفون أن قرار الانسحاب من الصفقة سيكون أُحادياً، وأن أمريكا ستبقى معزولة وحدها، ومن ثمّ فليس هناك ضغط حقيقي على إيران، كما أشار المستشار في معهد واشنطن للدراسات، دينيس روس، الذي سبق له أن شغل مناصب عليا في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والذي أكد على أن قرّار ترامب الانسحاب سيعزل أمريكا وليس إيران. فانسحاب الرئيس دونالد ترامب من صفقة النووي مع إيران سيعني بالضرورة نصراً لطهران وليس العكس.

 

ثمة قناعة واسعة الانتشار بأن القرار الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي وما أعقبه من إجراءات سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ضارة للولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة


أقرب حلفاء واشنطن من الأوروبيين يبدون انزعاجهم من السلوك الأمريكي، فقد انتظر الاتحاد الأوروبي، وخصوصا محور باريس ولندن وبرلين، خطاب بومبيو الذي وعد بتقديم رؤيته للمرحلة المقبلة، لكن وزير الخارجية الأمريكي، المعروف بخطابه المتشدد، لم يمد لهم يد العون، وليس هذا فحسب، بل طالبهم بـ"دعم" استراتيجية بلاده، مدركا الصعوبات التي تواجهها الشركات الأوروبية. فقد حذر بومبيو بشدة الشركات التي ستستمر في القيام بأعمال تجارية في إيران في قطاعات محظورة بموجب العقوبات الأمريكية؛ من أنها "ستتحمل المسؤولية". 

شقة الخلاف على جانبي الأطلسي بدأت بالاتساع، ويبدو أن إيران حققت نجاجا كبيرا بخلق حالة من عدم الثقة بين حلفاء الأطلسي. فقد انتقدت فيدريكا موغيريني، مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بشدة، النهج المبدئي لبومبيو في سياسته حيال إيران، وقالت موغيريني في بيان نشر الاثنين إن "حديث الوزير بومبيو لم يوضح كيف جعل الانسحاب من الاتفاق النووي، أو كيف عساه أن يجعل، المنطقة أكثر أمنا". وأعربت عن تأييدها لعدم تجميد العلاقات الاقتصادية مع إيران، وقالت: "تطبيع التجارة والعلاقات الاقتصادية مع إيران يعني جزءا مهماً من الاتفاق يجب أن يحافظ عليه المجتمع الدولي". أما وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، فقد أعرب عن عدم تأثره بالتهديدات الأمريكية الجديدة لإيران. وفي أعقاب اجتماع لوزراء خارجية مجموعة العشرين، علق ماس على خطاب المبادئ الذي ألقاه بومبيو حول استراتيجية بلاده الجديدة حيال إيران بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، قائلاً: "بالنسبة لنا، فإن هذه (التهديدات) لم تغير شيئا في الأمر". وقال: "هذا يمس بشكل مباشر المصالح الأمنية الألمانية والمصالح الأمنية لأوروبا كلها".

 

شقة الخلاف على جانبي الأطلسي بدأت بالاتساع، ويبدو أن إيران حققت نجاجا كبيرا بخلق حالة من عدم الثقة بين حلفاء الأطلسي

أما روسيا، فقد أعلن المتحدث بااسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، أن الاتفاق الإيراني ما زال يعمل. وقال بيسكوف للصحفيين، ردا على سؤال حول تقييم الكرملين لبنود واشنطن: "السؤال هو كيفية تقيم طهران لهذه النقاط الإثني عشر. أنتم تعلمون أن الكرملين وطهران والدول الأوروبية أكدوا التزامهم بخطة العمل الشاملة المشتركة. وأكدوا عزمهم على الاستمرار في الحفاظ على هذا الالتزام. وأضاف: "في الواقع، الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي خرجت من الاتفاق، لذا، من المهم أن نسأل كيف تنظر الى ذلك طهران، حيث أن الاتفاق لا يزال قائماً".

الرد الإيراني على الاستراتيجية الجديدة لواشنطن جاء سريعا، حيث رفض الرئيس حسن روحاني "التهديدات" التي وجهها مايك بومبيو، معتبراً أن باقي دول العالم لم تعد ترضى بأن تقرر الولايات المتحدة عنها. وقال في بيان: "إن زمن هذه التصريحات قد ولى"، فيما قال وزير خارجيته محمد جواد ظريف إن الولايات المتحدة تكرر "نفس الخيارات الخاطئة". وقالت الوزارة في بيان نقله التلفزيون الحكومي الإيراني، إن تصريحات بومبيو عبارة عن "أكاذيب" تهدف إلى "صرف الأنظار عن خرق الولايات المتحدة للصفقة النووية الدولية"، وجاء في البيان أيضا أن إيران "ترفض الادعاءات والأكاذيب الكامنة في هذه الاستراتيجية الجديدة المزعومة، وتدين التدخل السافر لوزير الخارجية الأمريكي في شؤونها الداخلية وتهديداته غير القانونية ضد دولة عضو في منظمة الأمم المتحدة". وقالت الخارجية إن الولايات المتحدة ستتحمل مسؤولية إجراءاتها العدائية ضد إيران.

في حقيقية الأمر أن التشدد اللفظي والعقوبات الاقتصادية والحصار كعناصر أساسية في الاستراتيجيات الأمريكية المتعاقبة؛ لم تفض إلى تحقيق الأهداف الأمريكية المرجوة، إذ تفتقر بعض العناصر الأساسية في الاستراتيجية إلى أدوات ووسائل تنفيذية، ومن الواضح أن النهج الأمريكي الجديد يحاول أن يحصل على ما يريد عن طريق الحلفاء، لكن المؤكد أن الحلفاء، سواء في أوروبا أو الشرق الأوسط، ليسوا على استعداد لدفع كلف وفواتير المغامرات الأمريكية، والأهم أن إيران عقب الإعلانات المتكررة عن الاستراتيجيات الأمريكية الجديدة، كانت تخرج أكثر صلابة وتماسكا ونفوذا، فقد باتت إيران لاعبا إقليميا مهما في المنطقة. وأدت التحولات التي عصفت في المنطقة على مدى السنوات الست الماضية؛ إلى تغيرات في بنية المشروع الإيراني وطموحاته الإقليمية، وباتت إبران تطمح إلى تحقيق خطة واعدة تهدف إلى خلق ممر بري يصل إيران بشواطئ البحر المتوسط مرورا بالعراق وسوريا لتعزيز نفوذ طهران في المنطقة، وهو مشروع إيراني وضع منذ منذ أكثر من ثلاثة عقود لكنه واجه صعوبات نظرية وعملية عديدة. ورغم أن استراتيجية إيران الناشئة حديثاً في بلاد الشام طموحة، إلا أنها تقع في إطار استراتيجية أكبر تأمل طهران من خلالها إلى تحقيق هيمنة إقليمية أوسع على المدى الطويل، وبهذا فإن الخطة المرحلية الإيرانية تهدف إلى تحقيق هيمنة مستدامة في العراق وسوريا ولبنان. 

مهما بدا وزير الخارجية بومبيو حازما، ومهما بدا الرئيس ترامب عاصفا، فإن حسابات الربح والخسارة تشير إلى محدودية خيار المواجهة والتصعيد العسكري. فالسياسة الأمريكية البراغماتية تدرك أن إيران قادرة على خلق مشاكل عديدة لأمريكا في المنطقة، وأن كلفة مواجهة إيران باهظة جدا، كما أن أمريكا تفتقر إلى قدرات فعلية على الأرض في العرق وسوريا قادرة على الحد من النفوذ الإيراني. وبحسب نيكولاس هراس، من مركز الأمن الأمريكي الجديد، فإنه "ومن أجل مواجهة إيران أو تحجيم نفوذها، ربما تجد نفسك قد انزلقت إلى صراع قد يؤدي إلى تدمير الاقتصاد العالمي. فهل الرأي العام الأمريكي أو حلفاؤنا على استعداد للتحمل؟".

خلاصة القول أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ضد إيران التي أعلن عنها وزير الخارجية بومبيو بعد أسبوع من قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، رغم صلابتها الظاهرية وعباراتها النارية، لا تزال ترتهن إلى أدوات ووسائل خارج إطار خيار "الحرب". ورغم تأثيراتها المادية والرمزية على إيران، لكنها تبقى محدودة. وكما حصل سابقا، سوف تعزز الاستراتيجية الجديدة من قوة ونفوذ إيران، فقد تمكنت إيران خلال العقود الأربعة الماضية من التمدد والانتشار وتمكين سيطرتها وزيادة نفوذها، وخلق فضاء جيوسياسي من طهران إلى بغداد، مرورا بدمشق ووصولا إلى بيروت، فضلا عن نفوذها في البحرين واليمن. وفي كل مرة ادعت أمريكا التصدي للنفوذ الإيراني، كانت إيران تخرج بنفوذ أكبر وتوسع أعظم. وما هو جديد هذه المرة أن أمريكا تبدو وحيدة، وتظهر كزعيم المافيا المنفلت من أي ثقة في التعامل وأي التزام بالعقود، وهي حالة جديدة سوف تساهم بعزلة أمريكا، حيث ظهرت بوادر الخلاف على جانبي الأطلنطي، وتبدو أمريكا غير قادرة على إقناع حلفائها الأوروبيين بالمضي خلفها دون مساءلة، ولا يبدو أن حلفاء أمريكا في المنطقة لديهم القدرة على مواجهة إيران وحدهم، وتحمل كلف الحرب وحالة عدم الاستقرار.