أفكَار

"كورونا" يكشف حدود المعارف والزعامات ويرسم خارطة العالم

تفشي فيروس كورونا المستجد نفرض فسه بقوة على عادات وتفاصيل الحياة اليومية للناس (الأناضول)

ما زالت جائحة كورونا تمتد في مختلف أصقاع العالم، ومع هذا الامتداد تتكشف يوما بعد يوم حدود المعارف الإنسانية وتواضعها.. وتتغير صورة العالم شيئا فشيئا.. لا دولة قوية في مواجهة هذا الفيروس المجهول المنشأ والطبيعة، ولا أحد بمنأى عنه بما في ذلك زعماء أكبر الدول وأقواها.. 

المفتي العام للديار الأسترالية الدكتور إبراهيم أبو محمد، يقدم في هذه القراءة الخاصة بـ "عربي21"، ما فعله فيروس كورونا بالعالم، والتداعيات المحتملة له.

 

 

أذل الناس وتفوق على الزعامات


لم يكتف فيروس كورونا في تأديب الناس بحالة العزل الاختياري الذي فرضوه على أنفسهم فزعا منه، وإنما أضاف إليه الخوف من تطوره في المستقبل، والتهديد بسرعة الانتشار والفتك بمن يطاله أو يصل إليه، الأمر الذى أضاف إلى الخوف قوة القانون في تنفيذ العزل واحترام التعليمات بفرض حظر التجول، وهو أمر لم يتعود عليه الناس، ذلك بالإضافة إلى ما لازمه من حالة التباعد الاجتماعي في البيت الواحد وبين الإنسان وأهله، حتى اخترع الناس طرقا للقاء عن بعد، كما اخترعوا تحية خاصة تتم بالإشارة فقط، وتخلو من حرارة المصافحة والعناق والقبلات، تلك التي تذكرنا بلقاءات الزعماء وقبلاتهم المزيفة الفارغة.   
 
الفيروس لم يكتف بذلك في إذلال الناس، وإنما أصر أن يتفوق على كل الزعامات العربية وغير العربية في إشاعة الاكتئاب، بالحديث عنه وعن إنجازاته، وأن يخطف الأبصار، وأن تتصدر أخباره السيئة والكريهة كل نشرات الأخبار وعلى كل المستويات في الفضائيات والسوشيال ميديا، فاحتل الوافد الغامض المستجد مكان تلك الزعامات في سرعة القتل والإنجاز والتخلص من كل ما يتعرض له على اعتبار أن الكل إرهابيين حتى تثبت براءتهم!!! ولن تثبت إلا........ (بتحليل دمائهم).!!! 

 

الجديد في زمن كورونا هو قدرته الفائقة في هدم بنيان العولمة الاقتصادية واستبدالها ببناء وتأسيس عولمة العقاب الجماعي لكل من بلغ به الغرور مداه، وتجاوز به طغيان القوة حدودها وحدوده، ومن ظن أن حصون السلطة والمال والسلاح مانعته من العقاب والهوان والذل والعجز.

 



سيرة المذكور أعلاه دائما يصحبها زخم إعلامي سلبي يذكر الناس دوما بعدد الضحايا المصابين مع كل يوم، ولا ينسي أن يُذكِّرهم أيضا بعدد الموتى الذين يغادرون دنياهم بلا وداع ولا دموع ولا حتى أبسط الحقوق لمن مات ولو كان قائدا كبيرا يحمل أكبر الرتب وأعلى النياشين. 

"كورونا" وتأديب البشر
  
في رؤية كثير من المحللين في العالم أن كورونا قد استدعى الدين بشدة بعد غياب طويل، وجعله حاضرا مشهودا في ذاكرة الزعماء والعامة، وتحتاجه الفطرة في الكروب والأزمات الشديدة، وتلجأ إليه النفس المتكبرة حين تشعر بالعجز أمام خطر يهددها، لتتحصن به وتستجير باعتباره الملاذ الآمن، ومن ثم فهذا الفيروس كائن تحكمه قوانين الكينونة في عالم الخلق والأمر. 

لكن الغريب أنه قد سوى بين الظالمين والمظلومين في الاستهداف، وبين الطغاة والمستضعفين، دون أن يراعي في الضغط والتهديد للضعفاء من الناس أن الدنيا قد جمعت عليهم شعورا بالخوف شحنت به أنظمة الاستبداد مشاعرهم وزرعته في نفوسهم حتى النخاع، وفي المقدمة شعوب العالم الثالث وبخاصة في عالمنا الإسلامي والعربي، فلم يفرق "كورونا" بينها وبين شعوب العالم المتقدم، وتعامل معها وكأنها شعوب مستريحة البال قريرة العين مسرورة الفؤاد تعيش في منأى من شر القهر والاستبداد السياسي والإحباط الذي يشمل دنياهم ويملأ حياتهم بؤسا وذلا. 

"كورونا" ليس حر التصرف، والغريب أنه لم يستثن حتى المساجد والكنائس والمعابد التي كان الناس يلجؤون إليها ليبثوا شكواهم لخالقهم فيها، فحرمهم منها بقوة القانون والفتوى. وهذا أمر يجب أن يلفت النظر كثيرا.  

وصاحبه وشاركه في الضغط على الشعوب المظلومة شعور آخر بالعجز والشك في قدرة الحكومات والأنظمة على مقاومة الوباء، وحمايتهم منه بتوفير الوسائل الطبية اللازمة بعدما بددوا ثروات البلاد في الأسلحة والحروب وشراء الذمم الرخيصة. 

هوان تضيق به النفوس حقيقة، لكنه في الجانب الآخر من الصورة ـ لمن يحسن الإبصار والإدراك ـ نوع من التربية والتهذيب يعاقب بها من أساء، وأنساه الإلف حجم النعم التي يحظى بها في الحياة العادية، وما تعود عليه من تسخير وخدمة، دون أن يلتفت مرة ليذكر من أنعم عليه أو يشكر من سخر له كل ما حوله وخدَّمَ عليه حتى مفردات الطبيعة، فيقابل كل هذه النعم بالجحود ونكران الجميل، ويطغى ويستبد ويجهل ويتجاوز. 

هنا يتجلى القادر المقتدر القاهر فوق عباده... لا بإنزال جند من السماء على أهل الأرض... فهم أقل وأذل من ذلك... وإنما بجندي صغير "فيروس" لا يُرَى ولا يُعرَف خلق ليؤدبهم ويربيهم ويضعهم في حجمهم الطبيعي، فيشيع الرعب ويعبث في عالم المال والأعمال فتتوقف المصانع وتغلق المحلات وتلغي صفقات التجارة، وتخسر البورصات ويخسأ الكبير الصغير والكبير، وتتضاءل الزعامات وترتعد فرائس القادة. 

ومع كل قفزة للفيروس بين ضحاياه يثير الفزع فتتوقف القطارات والحافلات وحتي الطائرات والمطارات، وتتدخل الجيوش ويجلس الرجال والزعماء والقادة في البيوت خوف الموت بالعدوى، وكأنهن نساء ارتكبن فاحشة العار فحكم عليهن بالإمساك في البيوت "حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا". 

دروس تسوقها الأقدار لتلفت البصر والبصائر إلى قيوم السماوات والأرض القائم على كل نفس بما كسبت، لعل الأعناق المتكبرة والمسكونة بغرور القوة في الحضارة الحديثة تتواضع وتخفف من غرورها وتتخلص من شعور التأله القاتل الذي يدفعها ـ دوما وبغباء ـ لسحق كل من يخالفها، لعلها تتذكر أن سجلات التاريخ مملوءة بطغاة كبار ظنوا أنهم ملكوا الوجود بقوتهم فطواهم الموت واقتصت منهم الأقدار وجعلتهم عبرة لأخلاف يصيبهم من الغرور ما أصاب السابقين فيحل بهم من العقاب ما يستحقون. 

عِبَرُ كثيرة يسوقها "كورونا" ويجب أن تكون مصحوبة بعبرات يقف بها المرء عند حدوده ويعود من غروره لحجمه الطبيعي كعبد مخلوق وليس سيدا خالقا، حتى وإن تفوق وغلب وساد. 

عولمة العقاب كبديل لعولمة الاقتصاد 

الجديد في زمن كورونا هو قدرته الفائقة في هدم بنيان العولمة الاقتصادية واستبدالها ببناء وتأسيس عولمة العقاب الجماعي لكل من بلغ به الغرور مداه، وتجاوز به طغيان القوة حدودها وحدوده، ومن ظن أن حصون السلطة والمال والسلاح مانعته من العقاب والهوان والذل والعجز. 

هل من مزايا؟
 
وفي ظل "كورونا" يتشابه ويتطابق الوباء السياسي مع الوباء الصحي، وبخاصة في العالم الثالث، وبرغم هذه القسوة في اجتماع وباءين في وقت واحد، إلا أن كثيرا ما ينطوي في كل شر بعض خير، قد لا يلتفت إليه كثيرون، واليوم قد ساهم "كورونا" في إراحة عيون المشاهد ومسامعه، حيث احتل الشاشات وحجب عن الناس صور الزعامات وأزاح عنهم أحاديث الكذب عن إنجازاتهم "الفنكوش" وأظهر حجم الإخفاقات والخداع الذي يعيشه عالم اليوم في الشرق والغرب معا. 

فضيحة الزعامات

كورونا فضح الزعامات الفارغة وها هو يؤدب الحضارة المارقة ويكشف عورتها ويظهر عجزها وتفاهتها وتزييفها، ويعيدها إلى حقيقتها الأولى التي قامت وتأسست عليها من سرقة واغتصاب للحقوق، وها هي تعود لممارسة القرصنة في البحار لسفن محملة بالعتاد الصحي فيستولون عليها بأسلوب يكشف أسوأ ما فيهم من أنانية وأثرة، فينزع القناع عن حقيقة كائن يرتدى "بدلة شيك" "ورابطة عنق آخر موديل" لكنه وحش له أنياب ومخالب في إهاب إنسان.
  
وفي ظل هذا الوباء الصحي والسياسي تضاءلت آمال الناس وطموحاتهم، وانكمشت مطالبهم في الحياتين الدنيوية والأخروية أيضا حتى وصلت في بلاد العرب الأجاويد إلى الخوف من موت بلا تغسيل وبلا تكفين، وربما بلا قبر ولا دفن أيضا، حيث تحرق الجثث ـ هناك ـ خوفا من انتقال إرهاب كرونا وعدواه. وعليه أن يحمد الله ويشكر الوطن لأننا لسنا كتلك البلاد. 

كرونا.. وعبر التاريخ
  
بعد ما يغادرنا الفيروس العابر للقارات والمستجد "كرونا" ويؤدي مهمته قطعا سيحتفل العالم بانتصاره على الفيروس، ويعلن ابتهاجه بهزيمته والقضاء عليه، لكن السؤال المهم هو:

هل سيصحب هذا الاحتفال أمل في الاعتبار والتغيير؟ وهل ستعرف الحضارة والزعامات المشلولة حجمها وتتواضع؟ أم أن كل شيء سيعود كما كان، ثم تعود "ريما" لعادتها القديمة؟ ومن ثم يعود المستضعفون للبحث عن أحلام تهون عليهم معاناة الحاضر وتمدهم بزاد جديد من الصبر والأمل بعدما نفد كل ما لديهم من قدرة تحت وطأة الاستبداد والقهر وعموم المظالم؟ 

 

كورونا فضح الزعامات الفارغة وها هو يؤدب الحضارة المارقة ويكشف عورتها ويظهر عجزها وتفاهتها وتزييفها، ويعيدها إلى حقيقتها الأولى التي قامت وتأسست عليها من سرقة واغتصاب للحقوق، وها هي تعود لممارسة القرصنة في البحار لسفن محملة بالعتاد الصحي

 



وهل يظل التاريخ بمكوناته ومقوماته مجرد صفحات طويت ومواقع لاجترار الذكريات والوقوف على أطلالها بحديث عن أمجاد العلم والعلماء والمختبرات والاكتشافات، ثم ينفض السامر لينهض "سامري" العصر الحديث، وينتهي الأمر بعبادة عجل اقتصادي جديد على له خوار؟ أم سترسخ التجربة في الوعي العام أن التاريخ هو ذاكرة الأمم ومستودع تجاربها ومعارفها الممتدة مع المكان في عمقه واتساعه، ومع الزمان في استطالته ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وأن دروسا في معرفة المدى الممنوح للبشر يجب أن نتعلمها ونعيها، وأن غرور القوة يجب ألا يتجاوز العدل، وأن على الحضارة أن تتواضع وتكف عن غرورها، وأن على العالم بعد الخروج من غيبوبة "كورونا" أن يقدر حجم النعم ويحجب عن المنعم بها كل أنواع الإساءات والجحود ونكران الجميل، وأن آدمية الإنسان يجب أن تكون فوق كل اعتبار ولا يسمح بالعدوان عليها مهما كانت مغريات المصالح والأسواق والبورصة، وأن هذا الذي حدث هو درس الوعي في التواضع والاعتبار الذي يجب أن ينقل إلى الأجيال القادمة لتتجنب فيروسات أشد فتكا بالشعوب من "كرونا" وهي فيروسات المظالم والاستبداد والقهر.

غياب حقائق التاريخ عن الوعي الذاتي والوعي الجمعي شيء خطير، لأن ذلك يعنى ببساطة شديدة تعطيل الحواس كلها وفقدان الذاكرة والوقوف على عتبة الجنون في عالم تحكمه بالفعل زعامات مختلة عقليا ونفسيا، ومحتلة فقط بهواجس الربح والمنفعة، ومسكونة بالجور والعدوان على حساب دماء الضعفاء والفقراء. 

مالم تستوعب حضارة اليوم تلك الدروس ستظل العشوائية والتخبط والخلط بين الماضي والحاضر، وإذابة الفروق بين الشرف واللصوصية وبين المقدس والمدنس هي القانون السائد الذي يسبب العجز عن تصور المستقبل واستحضار معالمه فضلا عن التخطيط له. 

والمسلمون هل ستطول الغيبوبة والغيبة؟ 

السؤال ذاته، سؤال الرغبة في التغيير، يطرح أيضا بالنسبة للمسلمين باعتبارهم أكثر من سبع سكان العالم:

هل سيجد المسلمون لأنفسهم مكانا لائقا تحت الشمس بعد التحولات الكبرى التي ستتركها بصمة كرونا في تاريخ الإنسانية؟ هل سيكون المسلمون في موقع الفاعل المرفوع بجهده وعلمه وعطائه؟ أم سيبقون في موقع المفعول به المنصوب دوما لتلقى سهام الآخرين؟ ويكون منتهي أمله وكل أمنيات الحياة لديه قد انحصرت في طموح مصحوب بدعاء أن يجد المرء في آخر دنياه قبرا ليدفن فيه بدلا من حرق جثته كما عند الآخرين.؟ 

يقين كاتب هذه السطور أن الإسلام سينتصر حتما وستعم سعادته وأمانه كل من آمن به وطبقه، لكن المسلمين ليسوا هم الإسلام، المسلمون هم ناس من الناس، إن هم نصروا دينهم بالعمل والعلم والجهد والأداء الحضاري انتصروا معه، وذلكم هو القانون الحاكم لحركة الوجود والمجتمعات والناس.
 
غير أن بعض صبيانهم الذين تسلطوا على الشعوب لا يؤمنون بذلك!!! بل دأبوا على الدخول في صراعات وحروب عبثية ضد أمتهم "دينا وهوية"، ولا زالوا مصرين على ممارسة المظالم والبطر بشكل يبدد ثروات البلاد إلى آخر رمق، ويعرضهم وشعوبهم لنقمة ربما لا يجدون فيها ما يقتاتون به، فيضطرون معها أن يأكلوا أوراق الشجر.

وهؤلاء لا ينتصر بهم دين ولا تنهض مع وجودهم أمة. وذلكم أيضا هو القانون الحاكم لحركة الوجود والمجتمعات والناس.

*المفتي العام للقارة الأسترالية