أفكَار

شهادة مهمة لكاتب بريطاني عن 11 سبتمبر ومحاربة الإرهاب (2من3)

إيان كوبين: هناك شهادات حية على تواطؤ بريطانيا وأمريكا في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان- (الأناضول)

يستعيد الكاتب والإعلامي الاستقصائي البريطاني إيان كوبين في هذه الورقة المطولة عن تداعيات أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة الأمريكية، وما تبعها من غزو لأفغانستان ثم العراق، وهي ورقة نشرها في موقع "ميدل إيست آي" يوم 3 أيلول (سبتمبر) الجاري.

"عربي21"، وفي سياق متابعتها وتغطيتها ليس فقط لمآلات الحرب في أفغانستان وانسحاب القوات الأمريكية والغربية وانهيار حكومة الرئيس أشرف غني، لصالح عودة السيطرة لحركة طالبان، وإنما أيضا لحجم التحول الذي جرى في العالم بسبب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة، وما تبعها من إعلان للحرب على الإرهاب، تترجم شهادة الكاتب والصحفي البريطاني إيان كوبين، بالنظر لما تحمله من معلومات وآراء مهمة عن تلك الحرب وما نجم عنها.. 

الورقة التي تنشرها "عربي21" على ثلاثة أجزاء متتابعة، مع أنها تتضمن معطيات أصبحت معلومة عن عدد ضحايا أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها تحمل وجهة نظر صحفي استقصائي بريطاني حاز سبقا صحفيا في تعرية الانتهاكات التي اقترفتها بريطانيا في مجال حقوق الإنسان، وبعد ذلك الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق.

وفيما يلي الجزء الثاني من المقال:

 

الجزء الثاني

 

غزو العراق

في وقت متأخر من ذلك العام، وبعد قضاء فترة من العمل الصحفي في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي تضمنت إجازة كنت فيها في منتهى السعادة، وبعد تغطية مباريات كأس العالم في كرة القدم في اليابان، ابتعثت إلى العراق استعداداً للغزو. 

 

الجزء الأول: كوبين: كيف استدارت الحرب على الإرهاب فعادت من حيث بدأت؟


 
كانت تلك أول زيارة لي إلى البلد منذ عام 1998، عندما سافرت عبر الصحراء الغربية لتغطية أحداث حملة من القصف استمرت أربعة أيام شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد أهداف في مختلف أرجاء البلد. 

وكان المبرر لتلك الهجمات هو إخفاق صدام حسين في التعاون مع مفتشي الأمم المتحدة الذين كانوا يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل. كانت تلك تجربة مثيرة للاهتمام، أن ينعم المرء بسخاء سلاح الجو الملكي. 

وهنا كنا تارة أخرى، في عام 2002، مع الحكومة البريطانية التي زعمت بأن لديها معلومات استخباراتية تثبت "بما لا مجال معه للشك" أن صدام حسين كان ينتج أسلحة كيميائية وبيولوجية. 

طرت من عمان وأمضيت عدة أسابيع وأنا أتنقل في أرجاء البلاد، وكنت هنا أيضاً أعمل مع بيت نيكولس في إعداد التقارير حول الطريقة التي كان الناس يعدون بها أنفسهم لاستقبال القدر المحتوم. 

مثل جميع الصحفيين الذين يزورون العراق البعثي، عين لمرافقتي مرشد من وزارة الإعلام، وهو في الواقع رجل أمن يتحدث الإنجليزية كان يلازمنا حيثما ذهبنا وكان يكتب تقريراً كل مساء حول ما قمنا به في ذلك اليوم من نشاطات. 

وكل يوم أثناء تنظيف غرفنا داخل الفندق كانت تخضع لتفتيش دقيق من قبل مسؤول حكومي (أعلم ذلك يقيناً لأن أحد الصحفيين البريطانيين قام سراً بتصوير عمليات التفتيش). 

وفي إحدى الأمسيات، وبينما كنا نتناول السمك في مطعم مفتوح على شاطئ دجلة، مال مرشدنا تجاهي وهمس في أذني قائلاً: "لتعلم يا إيان أنه لا توجد أسلحة دمار شامل. كانت موجودة من قبل. أما الآن فلا. ثق بي، فأنا أعلم ذلك".

لم أثق به، فهو في كل الأحوال جاسوس مكلف بمراقبتي. والأهم من ذلك أنني لم أكن مستعداً لتقبل فكرة أن صدام حسين كان سيتلاعب بالأمم المتحدة ـ لدرجة التسبب في غزو الولايات المتحدة وحلفائها لبلاده ـ فقط ليخفي ما ليس موجوداً لديه، بل لا بد أنه كان لديه ما يخفيه.

لم تكن تلك المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي أكون فيها مخطئاً بشكل ذريع. 

أثناء عام 2002، لم أتقبل أبداً زعم الحكومة البريطانية، والذي أصرت عليه طوال تلك السنة، بأنه لم يتم اتخاذ قرار بشأن الدخول في حرب مع العراق. كان متعذراً تصديق الحكومة في ذلك. 

ولكنني أعترف، ولعل في ذلك ما يشوبني، أنني أردت للحرب أن تقع وأن نخلص. لم يكن ذلك لأنني اعتقدت بأن نظام صدام حسين كان نظاماً شريراً (مع أنني فعلاً آمنت بذلك)، ولا لأنني صدقت بأنه كان يشكل خطراً على أمن المنطقة، وإنما ببساطة لأنني كنت على يقين بأننا ذاهبون إلى الحرب في كل الأحوال، وكنت أعلم أنه كان سيتوقع مني تغطية أحداثها، وكنت أرغب في الانتهاء من تلك المهمة وأمضي. 

بعد أشهر قليلة كنت أدخل العراق مرة أخرى، ولكن هذه المرة من الكويت، التي بدت فنادقها تعج بالآلاف من عمال الإنشاءات الأمريكان الأفظاظ الذين كانوا ينتظرون الانتقال شمالاً للمساعدة في إعادة بناء البلد. 

اجتزت الحدود خلف القوات البريطانية التي كانت تخوض المعارك فتحاً للطريق الذي سيوصلها إلى البصرة. 

داخل قصر صدام على ضفاف شط العرب صادفت صفاً من السجناء العراقيين، يجثون على ركبهم متسمرين في الشمس، رؤوسهم محجوبة بأغطية وأياديهم مغلولة وراء ظهورهم بأصفاد بلاستيكية. 

عدت بعد ساعات وكان السجناء مازالوا هناك على حالهم جاثمين، رؤوسهم مغطاة تحت أشعة الشمس الحارقة. 

اقترب مني أثناء سيري إثنان من العاملين في الإسعاف الطبي داخل الجيش البريطاني وأسرا لي بأنهما قبل قليل أسعفا سجيناً كان يجري استجوابه من قبل القوات الخاصة في قبو إحدى البنايات داخل المدينة. 

وقالا إن عدداً من المساجين يتواجدون هناك وأن المكان كانت تنبعث منه رائحة البول والدم والقيء. لم يكن هذا شبيهاً بشيء من إجراءات التعامل مع السجناء التي شهدتها على الحدود السعودية الكويتية أثناء حرب عام 1991. 

حينذاك كان الجنود البريطانيون يعتنون بشكل جيد بالسجناء العراقيين الذين في حوزتهم، والذين كانوا يعانون من الصدمة وكانوا في حالة يرثى لها بعد أسابيع من القصف الجوي. كانوا يزودونهم بالمياه ويوفرون لهم المأوى، وسمحوا لهم بالتدخين قبل أن يقوموا بترحيلهم. 

أما الآن، فكان الجنود البريطانيون والمارينز يستولون على المدارس الابتدائية في البصرة ويحولونها إلى قواعد لهم. وخارج تلك المدارس بدأت تتشكل طوابير من الرجال يحملون في أياديهم الجرادل والقوارير. 

شرحوا لي بأن التيار الكهربائي انقطع ولم تعد المياه الجارية متوفرة. وقال أحدهم: "لم تكن هكذا الأمور في عام 91 ولا في عام 98." وأضاف وهو يشير بيده نحو إيران: "لم يكن الحال كذلك أبداً عندما كنا نقاتلهم".

بطبيعة الحال كانت لدى البريطانيين وفرة من التيار الكهربائي الوارد من مولداتهم. ذهبت لرؤية ضابط مسؤول عن اللوجستيات والمؤن وشرحت له ما الذي كان يجري خارج القاعدة. 

أوضح لي أن مهمة وحدته كانت إخراج الجيش العراقي والمليشيات البعثية، وأن المهمة قد أنجزت، وقال بفرح ظاهر: "لعلنا بحلول شهر إبريل / نيسان نكون قد عدنا إلى بلادنا". 

بدأت المدينة تخضع لهيمنة جيوش من اللصوص، كثيرون منهم كانوا مجرد صبية، ديدنهم سرقة كل ما تقع عليه أياديهم من معادن أو أسلاك، الأمر الذي يفسر انقطاع التيار الكهربائي عن المدينة. 

في غياب الشرطة، أو سجون، تساعدهم في ضبط الأمن، لجأ الجنود البريطانيون المستغرقون بالأعباء، إلى تبني سياسة أطلقوا عليها اسم "التبليل"، وتتمثل في إلقاء السراق في مياه شط العرب، حتى يعودوا إلى بيوتهم لاستبدال ملابسهم المبتلة بأخرى جافة، وبذلك يتوقفون عن السرقة لبرهة ما. كان من نتائج ذلك لا محالة غرق عدد من الفتيان. 

 

وكالة المخابرات الأمريكية ـ السي آي إيه ـ أنشأت سلسلة من الشركات الوهمية في نورث كارولاينا، ومن خلال تلك الشركات امتلكت عدداً من الطائرات الخاصة، التي كانت تستلم السجناء من مواقع في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وتطير بهم إلى سجون سرية حول العالم فيما يسمى رحلات التسليم الجوية.

 



أما مقاولو الإنشاءات الأفظاظ الذين كانت تعج بهم ردهات فنادق الخمسة نجوم في مدينة الكويت فلا أثر لهم في أي مكان. 

يمكن لمراسلي الحرب أن يكونوا لحد الغرابة أشخاصاً ضيقي الأفق. قد يكتبون في كثير من الأحيان عما يشاهدونه فقط، أما "الصورة الكبيرة" كما تسمى فهي من الأمور المراوغة، وكثيراً ما يراها بشكل أوضح من يتابعون المشهد عن بعد. 

ولذلك عندما اتصل بي محرر صحيفة "ذي تايمز" على هاتفي الستلايات ليسألني كيف تجري أمور الحملة أجبته قائلاً: "حسناً، إذا ما أردت أن أحكم بناء على ما يجري أمامي مباشرة، لا أملك إلا أن أقول إنني لا أراها بتاتاً تسير على ما يرام".

في الأول من مايو / أيار من عام 2003، انتقل الرئيس بوش جواً إلى السفينة الحربية أبراهام لينكولن، حيث ألقى خطاباً أعلن خلاله أن الطالبان تم "تدميرهم" وأن عمليات القتال الرئيسية في العراق قد انتهت أيضاً. 

وقال: "في معركة العراق، لقد انتصرت الولايات المتحدة وحلفاؤها". فهتف وصفق له البحارة والطيارون، بينما ظهرت خلفه يافطة ضخمة كتب عليها عبارة "أنجزت المهمة". 

جرت مراسيم الخطاب أمام ساحل سان دييغو على بعد آلاف الأميال من الشرق الأوسط. 

فضح عمليات التسليم

في عام 2005، وبعد فترة قصيرة عملت خلالها محرراً للأخبار في صحيفة "ذي تايمز"، انتقلت إلى صحيفة الغارديان لكي أرجع إلى وظيفة المراسل. في اليوم الأول من عملي الجديد هاتفت صديقاً في واشنطن العاصمة لأعطيه عنواني الإلكتروني الجديد. 

سألني بيل: "هل قرأت الصفحة الأولى في صحيفة ذي نيويورك تايمز اليوم؟".

توصلت الصحيفة إلى أن وكالة المخابرات الأمريكية ـ السي آي إيه ـ أنشأت سلسلة من الشركات الوهمية في نورث كارولاينا، ومن خلال تلك الشركات امتلكت عدداً من الطائرات الخاصة، التي كانت تستلم السجناء من مواقع في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وتطير بهم إلى سجون سرية حول العالم فيما يسمى رحلات التسليم الجوية. 

قال بيل: "إذا كانت هذه الطائرات ستتوجه من نورث كارولاينا إلى الشرق الأوسط فلا بد من أنها تحتاج للتزود بالوقود في مكان ما". وأضاف: "أين تظنها تتوقف للتزود بالوقود يا إيان؟".

كان محقاً فيما قاله. ففي نهاية المطاف، ومن خلال رصد الأرقام التي تظهر على ذيل الطائرة، تمكنت من إثبات أن "السي آي إيه" هبطت طائراتها في بريطانيا ثم أقلعت منها ما لا يقل عن 210 مرة خلال السنوات الأربع منذ هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، مستخدمة في ذلك 19 مطاراً مختلفاً بعضها في قواعد تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني. 

نفت الوكالة أن الطائرات كانت تحمل على متنها أياً من المعتقلين عندما كانت تهبط في بريطانيا أو تقلع منها، ولا يوجد ما يدل على النقيض من ذلك. 

إلا أن نفس الأمر لا ينطبق على القاعدة الأمريكية في دييغو غارسيا، تلك الجزيرة التي تقع ضمن الأراضي التابعة لبريطانيا في المحيط الهندي، حيث كان المعتقلون ينقلون عبرها، بل ويحتجزون فيها كما قيل. 

بحلول ذلك الوقت كانت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة تكشف بشكل منتظم النقاب عن السرية التي كانت تحاط بها عمليات تسليم وإساءة معاملة المتهمين بالإرهاب ـ أو ما يمكن أن يعبر عنه بلغة انجليزية بسيطة عمليات الخطف والتعذيب ـ وتغوص عميقاً في تفاصيل حكاية فاتتني عندما كنت في كابول في يناير/ كانون الثاني من عام 2002. 

في نهاية العام مرت ببريطانيا لحظتان في غاية الأهمية. كان هناك أولاً لجنة الاستئناف في مجلس اللوردات ـ والتي كانت حينذاك المحكمة العليا في البلاد ـ والتي حكمت بأن المحاكم الدنيا لا يجوز لها الأخذ بدليل يتم انتزاعه تحت التعذيب. وكانت الحكومة قد زعمت بأن هيئة الاستئناف حول الهجرة بإمكانها الأخذ بمثل ذلك الدليل. 

حينذاك أرعد اللورد بينغهام، كبير القضاة، قائلاً: "منذ ما يزيد عن خمسمائة عام والقانون الإنجليزي العام ينظر إلى التعذيب وثماره باشمئزاز". 

ومع ذلك لم يحل حكم اللوردات دون أن يستخدم وزراء الحكومة مثل تلك المواد بطرق أخرى. وبالفعل قال أحد القضاة، وهو اللورد براون، إن الحكومة من حقها ليس فقط استخدام ما وصفه بأنه "ثمار شجرة مسمومة" بل تقع على كاهلها مسؤولية القيام بذلك إذا ما كان ذلك مطلوباً خدمة لمصالح أمن الدولة. 

وكان هذا، كما بدأت أدرك، بمثابة حرية لم تتردد الدولة البريطانية في ممارستها. 

بعد خمسة أيام من صدور قرار مجلس اللوردات، مثل وزير الخارجية جاك سترو أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم للمساءلة. 

عندما سئل عن استخدام "السي آي إيه" لمطارات بريطانيا والمزاعم بشأن ضلوع بريطانيا في برنامج التسليم، أجاب الوزير بما يلي:

"ما لم نبدأ جميعنا بالاعتقاد بنظريات المؤامرة وبأن المسؤولين يكذبون، بأنني أنا شخصياً أكذب، وبأنه من وراء ذلك يوجد نوع من الدولة السرية المتواطئة مع قوى الظلام في الولايات المتحدة، وأيضاً دعوني أقول، ونعتقد بأن وزيرة الخارجية كونداليزا رايس تكذب، لا يوجد ببساطة أي حقيقة في المزاعم بأن بريطانيا ضالعة في عمليات التسليم، نقطة آخر السطر، لأننا لسنا ضالعين". 

لابد أن سترو كان على ثقة تامة حينذاك بأن المعلومات الحقيقية لن تظهر فيما بعد. 

في العالم التالي بدأت لجنة المخابرات والأمن في البرلمان البريطاني، التي من المفروض فيها أن تراقب آداء أجهزة الاستخبارات في البلاد، في النظر في المسألة. 

بعد عقد عدد من جلسات الاستماع خلصت لجنة المخابرات والأمن في يوليو/ تموز من عام 2007 إلى أن أجهزة المخابرات البريطانية MI5 و MI6 مذنبة فقط "بأنها أبطأت في تحري النمط الآخذ في التجلي" لعلميات التسليم التي تقوم بها "السي آي إيه".

وهذا أيضاً لم يلبث أن ثبت أنه عار تماماً عن الصحة. ومع ذلك ظل ضباط جهاز المخابرات MI5 و MI6 يشيرون على مدى بضع سنوات قادمة إلى تقرير لجنة المخابرات والأمن ويقولون للصحفيين: "لقد حصلنا على شهادة براءة". 

البصرة وهيلماند

في جنوب العراق في تلك الأثناء بدأ البريطانيون يواجهون تمرداً حاسماً ومسلحاً بشكل جيد، يبدو أنه لم يكن يخطر لهم ببال، يقوده الزعيم الشيعي مقتدى الصدر. 

بحلول ذلك الوقت كان البريطانيون قد كسبوا عداء جل السكان في البصرة، وبسبب حاجتهم الملحة الآن لجمع المعلومات حول جيش المهدي بقيادة الصدر بدأوا يمارسون أساليب التحقيق القاسية، مما دفع الصليب الأحمر ومحامين يعملون مع الجيش البريطاني إلى دق جرس الإنذار، إلا أن عدداً من الناس قضوا نحبهم وهم محتجزون لدى الجيش البريطاني. 

أثبت تحقيق رسمي فيما بعد أن أحد هؤلاء، وهو موظف استقبال في أحد فنادق البصرة اسمه بهاء موسى، تكبد ثلاثاً وتسعين إصابة قبل وفاته بعد ستة وثلاثين ساعة من الاستجواب. 

 

بعد إجراء تحقيق رسمي بريطاني في حرب العراق قال رئيس لجنة التحقيق السير جون تشيلكوت، وهو موظف كبير سابق في الحكومة: "بقرارها القيام بعمليات متزامنة في العراق وأفغانستان فإن بريطانيا تجاوزت عن علم فرضيات التخطيط الدفاعي. ومنذ تلك اللحظة لم يكن ثمة مفر من استنفاذ جميع الموارد".

 



في شهادته التي أدلى بها للتحقيق، قال ضابط كبير في الاستخبارات العسكرية إن الأمريكان كانوا يعتبرون أساليب الاستجواب البريطانية ناعمة أكثر من اللازم ولا تفضي إلى نتائج. 

في مطلع عام 2007، وعلى إثر تصاعد الهجمات بقذائف الهاون والقناصة والعبوات المتفجرة على قارعة الطريق، أعيد كتابة قواعد الاشتباك، وصدرت التوجيهات للجنود البريطانيين في البصرة بإطلاق النار على أي مدني يشاهد حاملاً لهاتف نقال أو مجرفة أو يتصرف بشكل مريب. 

وفي نهاية الأمر أبرم البريطانيون صفقة مع المسلحين تقضي بإطلاق سراح السجناء مقابل وقف الهجمات على قواعدهم، ثم ما لبثوا أن انسحبوا إلى مطار في أكناف المدينة. 

وفي لندن كان المسؤولون في وزارة الدفاع يتهامسون فيما بينهم عما إذا كان بإمكانهم أمام العامة استخدام مصطلح "الهزيمة الاستراتيجية" لدى مناقشة العراق. وفي أفغانستان لم تكن الحرب تسير بشكل أفضل. 

في مطلع عام 2005، قرر حلف شمال الأطلسي توسيع التزامه في أفغانستان. بحلول ذلك الوقت ساد إحساس بين الوزراء في حكومة طوني بلير وبين المسؤولين في وزارة الدفاع بأن بريطانيا تمارس دوراً أدنى بكثير من قدراتها الحقيقية. في تلك الأثناء أيضاً كان كبار الضباط في الجيش يتوقون إلى تجاوز إخفاقات العراق وتركها وراء ظهورهم من خلال شن حملة جديدة. 

وتم عن عمد تجاهل حقيقة أن تخطيط الدفاع البريطاني كان يفترض أن البلد ليس بإمكانه خوض حربين اثنين في نفس الوقت. 

وبعد إجراء تحقيق رسمي بريطاني في حرب العراق قال رئيس لجنة التحقيق السير جون تشيلكوت، وهو موظف كبير سابق في الحكومة: "بقرارها القيام بعمليات متزامنة في العراق وأفغانستان فإن بريطانيا تجاوزت عن علم فرضيات التخطيط الدفاعي. ومنذ تلك اللحظة لم يكن ثمة مفر من استنفاذ جميع الموارد". 

أخبرت وزارة الدفاع تيشلكوت أنها غير قادرة على تفسير هذا القرار، فما كان منه إلا أن ندد بردها ذلك واعتبره "غير مقبول". 

على الرغم من معرفتها بأن لديها عجزاً في الموارد، أعلنت الحكومة البريطانية في شهر إبريل/ نيسان من عام 2006 أنها ستوسع جهود إعادة الإعمار في هيلماند جنوبي أفغانستان، الإقليم الذي كان يشهد زراعة ما يقرب من نصف محصول الخشخاش (الأفيون) في البلاد. 

حينذاك أخبر قائد الجيش ريتشارد دانات السفير البريطاني في كابول أنه إذا لم يرسل القوات إلى هيلماند، في وقت كان تعداد قواته في العراق يشهد انخفاضاً والعمليات في شمال إيرلندا تشهد إنهاءً، فإن حجم الجيش سوف يتقلص. ويقال إنه عبر عن ذلك بقوله: "استخدمهم أو أفقدهم".

فتم تجميع قوة تعدادها 3300 جندي. ولقد أخبرني أحد الضباط الذين كلفوا بقيادتهم بما يلي: 

"حاز الكنديون على قندهار، فكان التفكير في وزارة الدفاع (في لندن) على ما يبدو: كان ينبغي أن تكون قندهار لنا. ولذلك قررنا بدلاً من ذلك أن نتوجه إلى هيلماند، وبعد اتخاذ القرار بالذهاب إلى هناك، فكرت رئاسة الوزراء بالأمر ثم قررت أن السبب من وراء ذهابنا إلى هناك هو استئصال الخشخاش. ولكن بعد إلقاء نظرة واحدة على المكان قررنا أننا لن نسمح طوال وجودنا باستئصال الخشخاش، لأننا لو حرمنا الناس هناك من مصدر معيشتهم فمن المؤكد أن ذلك سيغذي التمرد. ولكن مع ذلك لم يطل بنا المقام حتى بدأنا نتعرض لإطلاق النار من قبلهم على أية حال". 

تم تشكيل مجموعة المعركة من جنود ينتمون إلى كتيبة من فرقة المظليين، وهي وحدة بحكم تدريبها وثقافتها تعظم شأن العدوان، ربما أكثر من أي وحدة أخرى داخل الجيش البريطاني. 

كان من يطلقون النار عليهم يوصفون بأنهم طالبان ـ "تيري طالبان" في اصطلاح صغار الجنود ـ وذلك في تجاوز وتجاهل تام للعلاقات المعقدة والمنافسات المحتدمة بين المجموعات المختلفة التي كانوا يحاربونها. 

ما لبثت "جهود إعادة الإعمار" أن شابها سلسلة من المواجهات العنيفة، وظل عدد القتلى في ارتفاع، وخاصة بين الأفغان. 

غوانتانامو والتعذيب

في لندن بدأت إجراءات مقاضاة بالنيابة عن شخص يقيم في بريطانيا اسمه بنيامين محمد كان قد احتجز في غوانتانامو، وبدأت هذه الإجراءات في إعطاء لمحة عن مدى ضلوع أجهزة المخابرات البريطانية، وبشكل وثيق، في برنامج التسليم. 

سمعت المحكمة أن جهاز MI5 أرسل ضابطاً إلى كراتشي بعد أن أخبرت "السي آي إيه" الجهاز عن الطريقة التي كانت تسيء فيها بشكل فظيع معاملة محمد وكيف كان يرد على ذلك. فيما بعد سافر ضباط من MI5 و MI6 إلى غوانتانامو لاستجواب محمد والعديد من السجناء الآخرين. 

فحكمت المحكمة بأن جهاز MI5 "تجاوز كثيراً مجرد دور المتفرج أو الشاهد على الإساءات المزعومة". 

في تلك الأثناء كانت الحكومة البريطانية تزداد خشية من التهديد الذي يشكله إرهابيو القاعدة. وذلك أن اثنين من بين الانتحاريين الأربعة الذين قتلوا 52 وجرحوا 700 في تفجيرات شبكة النقل في مدينة لندن في شهر تموز (يوليو) من عام 2005 سجلوا فيديوهات قالوا فيها بصراحة إنهم نفذوا الهجمات بسبب الحربين في أفغانستان والعراق. 

 



في محاكمتين منفصلتين لمتهمين بالإرهاب عقدتا في لندن ومانشستر، زعم المتهمون الذين اعتقلوا في الباكستان ورحلوا إلى بريطانيا بأنهم تعرضوا للتعذيب مراراً وتكراراً وأن ضباطاً من MI5 و MI6 كانوا يزورونهم بين جلسات التعذيب ليطرحوا عليهم نفس الأسئلة التي طرحها عليهم للتو معذبوهم من الباكستانيين. 

أحد هؤلاء، واسمه رانغزيب أحمد ويقضي الآن حكماً بالسجن المؤبد، فقد ثلاثة من أظافر أصابعه بعد أن وضع جهاز الـ MI5 والشرطة في مانشستر قائمة بالأسئلة الموجه إليه وقام جهاز الـ MI6 بتمريرها لوكالة المخابرات الباكستانية سيئة الصيت. 

وعندما استدعيت الوكالتان للرد على هذه المزاعم تم إخلاء المحكمتين من الصحافة والجمهور.

كان ضباط مكافحة الإرهاب يتعاملون مع قضية أحمد بحساسية بالغة حتى أن أحدهم هاتفني ليخبرني بأنه ينبغي علي ألا أذكر في تقاريري الصحفية أن أحمد تعرض للتعذيب وهددني بأنني لو فعلت فإنه سيؤذيني، دون أن يحدد الطريقة التي سيؤذيني بها. 

وكانت هناك حالات أخرى، في مصر وفي دبي. مرة أخرى، كنت في البداية متردداً في تصديق أن المخابرات وأجهزة الأمن البريطانية كانت تعمل بموجب سياسة حكومية سمحت لهم بالتواطؤ في ممارسة التعذيب، إلا أن نمطاً واضحاً بدأت تتجلى معالمه. 

 

في محاكمتين منفصلتين لمتهمين بالإرهاب عقدتا في لندن ومانشستر، زعم المتهمون الذين اعتقلوا في الباكستان ورحلوا إلى بريطانيا بأنهم تعرضوا للتعذيب مراراً وتكراراً وأن ضباطاً من MI5 و MI6 كانوا يزورونهم بين جلسات التعذيب ليطرحوا عليهم نفس الأسئلة التي طرحها عليهم للتو معذبوهم من الباكستانيين.

 



سافرت إلى الباكستان وبنغلاديش وأجريت المزيد من التحقيقات. في بعض الأوقات كان ضباط أجهزة المخابرات المحلية يؤكدون صحة المزاعم بممارسة التعذيب، ويتحدثون عن الضغوط الهائلة التي تمارس عليهم من قبل نظرائهم في الولايات المتحدة وبريطانيا. 

قال أحد ضباط المخابرات، وكان مسؤولاً عن تعذيب طالب طب بريطاني باكستاني في كراتشي في عام 2005، إن البريطانيين "ما لبثوا يلحون علينا بشدة للحصول على معلومات".

لم ترغب الحكومة البريطانية في مناقشة تفاصيل أي من المزاعم حول ضلوعها في ممارسة التعذيب، وبدلاً من ذلك اتكأت على ترنيمة غير مقنعة على الإطلاق، نصها كالتالي: "تندد الحكومة البريطانية بدون تحفظ باستخدام التعذيب، وسياستها ألا تشارك أو تشجع أو تقر اللجوء إلى التعذيب أياً كانت الغاية من ذلك".

بحلول عام 2009، ومع تراكم القضايا، بدا النفي مبتذلاً جداً، ولكنه حفزني على مزيد من العمل، وعزمت على أن أدفنه تحت جبل من الأدلة. 

أدهشني أن قلة قليلة جداً من زملائي الصحفيين البريطانيين اختاروا التحقيق في المزاعم التي تتهم بريطانيا ووكالات مخابراتها بأنها كانت ضالعة في الإساءة لمواطنين بريطانيين ولغيرهم أثناء ما يسمى بالحرب على الإرهاب. 

بالطبع كانت هناك استثناءات مشرفة، ومنها ريتشارد نورتون تيلور في الغارديان ودافيد روز في الميل أون صنداي وستيفين غراي الذي يعمل الآن في رويترز. 

لقد افترضت ـ ولكن لا يمكنني الجزم بذلك ـ بأن بعض المحررين تم إقناعهم، ربما على وجبة غداء، بأن يضمنوا عدم تحقيق مؤسساتهم الإعلامية في الطريقة التي غدت من خلالها بريطانيا شريكاً في عمليات التسليم التي تنفذها الولايات المتحدة. 

وذات مرة تواصل محرر الغارديان ألان روسبريدجر مع لجنة المخابرات والأمن في البرلمان البريطاني واقترح عليهم أنه لم يعد من الملائم ولا الكافي أن يقتصر التحقيق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على الصحفيين. 

وعدت لجنة المخابرات والأمن بالنظر في الأمر. ولكن بعد أربعين دقيقة اتصلت امرأة تمثل اللجنة هاتفياً بألان وقالت له: "لا، لن ننظر في هذا الأمر، فذلك ليس من صلاحياتنا." وتارة أخرى، كان هذا مناقضاً تماماً للحقيقة.