أفكَار

الديمقراطية النافعة والشرط الثقافي لمواجهة التطرف والاستبداد

كيف يتم تحويل البلدان العربية إلى دول مرغوب فيها من طرف مواطنيها؟ وحهة نظر عالم اجتماع مغربي- (الأناضول)

في البلدان السيئة النمو الإقتصادي والتدبير السياسي، نشأ صنف مهيمن من أهل الدولة والوظائف الكبرى: "فاعلون" متقبلون، انتهازيون ومتاجرون صلافى، عشيرو المناصب المعبرية والتواطؤات المنفعية. شعارهم الباطنيِّ الأثير: نحن أولا وبعدنا الطوفان.

إن الحكم الذي يترك الأبواب مشرعة أمام أمثال تلكم "الفاعلين" لهو والديمقراطية (بشقيها السياسي والاقتصادي) على طرفي نقيض. ذلك أن هؤلاء، وهم في دوائر القرار والتدبير، غالبا ما يتركون الناس في الحالة التي يجدونهم عليها: حالمين يقاظى بالعافية المادية المُؤمِّنة، وبالطور الاجتماعي والثقافي الأرقى أو في طريق الرقي.

في الأجواء الموبوءة ذات الفوارق الاجتماعية والذهنية الفادحة، ركزوا نظركم على العلاقات الإنسانية، تدركوا أنها متفككة الأوصال، ضعيفة الجودة، وأن المصالح الضيقة، الفردية والخاصة، تصنعها وتحكمها.

مع تلك الظواهر ومثيلاتها في الفداحة والانعكاسات السلبية على الحياة العامة وإدارة الشؤون الحساسة، الداء الذي يسري ويستشري يسمى اللامعقول، أي هذا التفريخ الجرثومي الجائح الذي يغنغر نظامنا، ويتظاهر عبر أعراض عديدة والوباءُ واحد: من جهة المحسوبية والزبونية والفساد والتبذير، ومن جهة أخرى اللامحاسبة كخاتم الدور وتكريس لواقع توالي الإحباطات والمآرق. وكلها عناصر متفشية تستحق ـ هي وغيرها وما يتفرع عنها ويتمخض من اختلالات وانكسارات ـ أن يُنشَأ لها مراصد للضبط والتشخيص والمعالجة.

إن تلك الظواهر السالبة لعنات ضد كرامة الإنسان، وطعنات ناسفة للرغبة في التكوين والثقافة من أجل الحياة، تُصرِّف أضرارها في الحال والمآل، وتعدُّ التربة لفشو بؤر التطرف الأهوج والغلو في الدين الذي نهى عنهما نبي الإسلام باسم نبيّه وحكمائه.

إن التأهيل الحضاري الأصح هو السعي الحثيث المبرمج إلى تحقيق وتيرة معتبرة للتنمية البشرية، التي هي معيار النمو الاقتصادي الحق، بحيث أن هذا الأخير، حتى بنسب عالية، يمكن أن يكون اجتماعياً غير ذي وقع ولا مردودية، إذا ما بقى الناس سجناء في حياة الضنك والعسر، وظلت دون الإصلاح المجدي معضلة الفقر والبطالة والسكن المهين، أي معضلة الحيف الاقتصادي وانتهاك حقوق الإنسان.

في البلدان العربية المطالبة بالتنمية البشرية يكمن التحدي الكبير في تحويلها إلى بلدان مرغوب فيها من طرف مواطنيها على الصعيدين السوسيو ـ اقتصادي والديمقراطي ـ الثقافي. أما إذا عجز ذكاؤها أمام هذا التحدي، فإن الاحتقانات والإخفاقات قد تستفحل لتستحيل هجرة اليائسين والمعدمين وكذلك الأموال والكفاءات إلى ظاهرة عويصة مزمنة، فنخاطر بالركون إلى وجود تاريخي ذيليِّ متعثر ذي منابت سيئة لا تظهر الدمقراطية فيها ـ إن هي ظهرت ـ إلا كديمقراطية خضراء الدمن لا غير. 

حيال الأزمات السلبية المستفحلة وواقع الأوضاع الفاسدة المتفاقمة لا يسع الثقافة الديمقراطية إلا أن ترقيَ قيم التنمية والحرية والعدالة وترعاها قوة العقل والمبادئ الاجتماعية المؤسسة ضد الخطابات المحرقة والممارسات العنيفة من حيثما صدرت. 

وإذا كانت الدمقرطة الفعلية للمجتمع كفاحا إلزاميا مستداما فلأنها اختيار حضاري، من شأنه أن يجثـث جذور الاستبدادية والتعصبية من الحياة السوسيو ـ سياسية، وأن تنظم هذه الحياة حول معاملات مدنية و مشاريع إنمائية ملموسة التحقيق والنتائج، أي حول مؤسسات فاعلة، منتجة وقوية. وذلك أن هذه المؤسسات وحدها تقدرعلى أن تطبع وتكرس تبني الديمقراطية من طرف كل الفرقاء السياسيين، بمن فيهم أصحاب التيار الأصولي، وكذلك أن تحصنهم ضد أي ميول استبدادي وأي انحراف كلياني، كإقامة نظام الحزب الواحد أو التحالف مع العسكر ضد المواطنين والمجتمع المدني.

 

حيال الأزمات السلبية المستفحلة وواقع الأوضاع الفاسدة المتفاقمة لا يسع الثقافة الديمقراطية إلا أن ترقيَ قيم التنمية والحرية والعدالة وترعاها قوة العقل والمبادئ الاجتماعية المؤسسة ضد الخطابات المحرقة والممارسات العنيفة من حيثما صدرت.

 



إن الغاية العليا التي يلزم تقصدها بالفكر والعمل تكمن أساسا في إلغاء كثرة التفاوتات والكسور والأعطاب السوسيو ـ اقتصادية والثقافية، التي تستنزف وجودنا وتغرقه في انفجارات الممارسات اللاعقلانية والاعتباطية العنيفة أو بعبارات أخرى، أن نعيد للمجتمع نوابضه اللاحمة الحيوية، ونجعله حاضرا بالفعل في هويته وصيرورته التاريخيتين: ففي هذا تكمن مهمة كل معرفة إيجابية محرّرة. وخدمة لهذه المهمة الصعبة – والتي ما أوكدها!- كل التنظيمات الحزبية والتيارات الفكرية مطالبة بأن تستثمر قواها وتعطي أفضل ما لديها.
 
ولئن جاز لديمقراطية القرب والتفضيل الاجتماعي أن تدعي لنفسها امتيازا ما، فبشرط أكيد يتبلور أكثر فأكثر في إقامة رؤيتها السياسية الثقافية على ثوابت استراتيجية متكاملة ثلاثة، ندكرها تحديدا لكونها غير محققة بعد ولا فاعلة في واقع الحال بما يضمن ترسخها وتطورها.

ـ التجذر في الإرث العربي ـ الإسلامي الذي يلزمها الاضطلاع به كوريث للقيم الإسلامية من مساواة وتضامن وعدالة، وكذلك لثقافة الإسلام الثرية العميقة، سواء الروحية منها والدنيوية.

ـ التملك الوظيفي الفاعل للحداثة، ليس كسلعة تعويضية ersatz أو سوق للمنتوجات الاستهلاكية، بل كمعين لقيم مضافة، نافعة ومنتجة، وكحقل بحث وإبداع في سبيل ترقية الإنسان والوجود الاجتماعي. وبالتالي فالتحديث الحق لا ينبني ضدا على الشخصية الهويتية الأصيلة، بل يتقصد خدمة صحتها ونموها  المطّرد.

ـ الانخراط الحيوي في روح الديمقراطية كنسق إجماعي، تلغي أركانه المؤسسة كل شكل من أشكال الاعتباط والحكم الفردي، وتعطي لمجتمع المواطنين حق تشغيل قاعدة التناوب والمساهمة في إدارة الحياة السياسية وانتخاب ممثليهم وحكامهم ومراقبتهم وكذلك محاسبتهم وإسقاطهم حتى ولو كانوا من الجناح الأصولي. 

إن السياسة كميدان خصوصي هو بامتياز ميدان البرنامج والفرضية والتجريب، وكممارسة جد إنسانية ليست البتة بمنأى عن الفشل والخطإ ومواطن الضعف والزلل. وبالتالي وحدها المؤسسة الديمقراطية قادرة على مدها بطاقات العمل النقدي والتصحيح والتطور، وعلى تزويدها بالدم الجديد والفاعلين الجدد، وتمتيعها إذن بأسباب المصداقية الإجرائية والتقدير.
 
في جميع الأحوال وسعيا إلى رفع الضغوطات الهيمنية، إن أعز ما يطلب ويقوم كدعامة مرجعية لا مناص منها هو: 

أ ـ أن تسقط الحواجز الذهنية والنفسية حتى تصلح وتعمل قنوات التواصل بين الأسر والاتجاهات السياسية والثقافية داخل المجتمع الواحد؛ 

ب ـ أن نجمع على أن التدين الخالص هبة ربانية وهداية من الله، كما يؤكد عليه في غير ما موضع إسلام التسامح واليسر واللاإكراه، وأيضا على أن معالجة الشؤون الدنيوية أو الزمانية المحايثة المتقبلة موكولة أساسا إلى البشر، أفرادا وجماعات أحرارا ومسؤولين، كما تشير إليه آيات كثيرة حول استخلاف الإنسان في الأرض وتخييره وحضه على إعمال النظر والعقل. 

وعلى ضوء هذين المبدأين وتفريعاتهما العملية، يمكن للفرقاء السياسيين والاجتماعيين أن يرتقوا إلى ثقافة الحكمة والتحضر وبالتالي أن يفكوا كل ارتباط بالخطابات الغلّية الذميمة وبالأفعال الإعدامية العنيفة.