أفكَار

تعديل مدونة الأسرة بالمغرب.. صراع الأولويات بين الإيديولوجيا والحقيقة الاجتماعية

عدد كبير من الجمعيات النسائية والحقوقية، اعتبروا الدعوة الملكية لمراجعة مدونة الأسرة مناسبة أخرى لممارسة الضغط من أجل تحقيق مكاسب جديدة.. الأناضول
يعرف المغرب هذه الأيام دينامية تشاورية واسعة من أجل تعديل مدونة الأسرة، بعد أن استغرق العمل بموادها حوالي عقدين من الزمن، وذلك منذ تاريخ إقرارها في مجلس النواب سنة 2004.

الملك محمد السادس، دعا في خطابين متتالين، خطاب العرش وخطاب افتتاح البرلمان إلى تعديل مدونة الأسرة، بقصد استدراك النقائص التي أبان عنها واقع التطبيق، وأسند في رسالة موجهة إلى رئيس الحكومة الإشراف على مراجعة المدونة إلى ثلاثة مكونات تشترك في الهم القانوني والقضائي، وهي: وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، على أن يتم إشراك الهيئات الأخرى المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، وأن يتم الانفتاح على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين، وترفع بعد ذلك المقترحات التعديلية المنبثقة من المشاورات التشاركية الواسعة إلى نظره  وذلك في أجل أقصاه ستة اشهر، لتقوم الحكومة بعد ذلك بإعداد مشروع قانون مستخلص من المخرجات التي اقرها النظر الشريف، لتعرض على مصادقة البرلمان.

عدد كبير من الجمعيات النسائية والحقوقية، اعتبروا الدعوة الملكية لمراجعة مدونة الأسرة مناسبة أخرى لممارسة الضغط من أجل تحقيق مكاسب جديدة تحسب على الاقتراب إلى المرجعية الحقوقية الدولية ومراجعة مواد المدونة التي تتعارض مع الاتفاقيات الدولية والبروتوكولات الاختيارية التي صادق عليها المغرب، في حين اعتبر جزء كبير من الجمعيات المدنية المحسوبة على التيار الديني التقليدي أو الحركات الإسلامية، أن الملك حسم في مرجعية التعديل، وأنه لا يمكن بحال أن يمضي في اتجاه مخالفة النصوص الشرعية القطيعة، وأنه لذلك، وجب التصدي لأي دعوة تريد استثمار تعديل المدونة لاستهداف المرجعية الإسلامية التي تنطلق منها.

في الواقع، ثمة جدل كبير حول مستقبل هذه التعديلات وأي اتجاه ستأخذه، وذلك لاعتبارين متقابلين، أولها أن الملك حدد بشكل دقيق أهداف التعديل وطبيعته ومرجعيته، فاعتبر أن الهدف من عملية التعديل هو إعطاء المرأة حقوقها القانونية والشرعية، والنهوض بوضعتيها، وتعزيز مشاركتها الفاعلة في مختلف مجالات التنمية، وتصحيح الاختلالات واستدراك النقائص التي اعترت تطبيق المدونة، وحرفت بذلك النص عن مقاصده، وأوضح أن القصد من تعديل المدونة لن يكون تأمين حقوق المرأة على حساب حقوق الرجل أو العكس، بل تبني مقاربة متوازنة، ترعى حقوقهما معا، وتحمي حقوق الأطفال، وتضمن تماسك الأسرة واستقرارها، وأكد على مستوى المرجعية أنه بصفته أمير المؤمنين فإنه "لن يحل حراما ولن يحرم حلالا"، وألا اجتهاد في النصوص القطعية، وأن الاجتهاد في مراجعة نصوص المدونة، ينبغي أن يتم في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي.

أما الاعتبار الثاني المقابل، وهو أن المغرب اختار الدخول في العهد الدولي، وصادق على جملة من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق المرأة والطفل، مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة سنة 1993، ورفع التحفظات عنها سنة 2008، وصادق البرلمان المغربي على البروتوكول الاختياري المتعلق بها، والبروتوكول الاختياري للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في السابع من يوليوز 2015، مما يعني ضرورة أن المغرب صار معنيا بتقديم أجوبته بخصوص التوصيات المتعلقة بنظام الأسرة التي أقرتها لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة في تقريرها ليوليوز 2022، أو التوصيات المقبولة جزئيا أو كليا في إطار الاستعراض الدوري الشامل لنونبر 2022 التي تم الإعلان عنها في مارس 2023، بمجلس حقوق الإنسان بجنيف، أو التي تتعلق  بتنزيل توصيات اجتماع بيكين +25  المنعقد في آذار / مارس 2020.

هذه الوضعية المزدوجة، تترك التباسا حول مستقبل التعديل، وهل سيتجه في منحى التفاعل مع هذه الاتفاقيات وتوصيات بروتوكولاتها الاختيارية بما يدعم أطروحة سمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية، أم في منحى تنزيل الصيغة الدستورية التي اختارها لحسم صراع المرجعيات، وذلك باشتراط موافقة البرلمان، تجسيدا لأطروحة سمو التشريع الوطني على المرجعية الدولية؟

تعديل المدونة.. الإيديولوجيا وصراع الأولويات

هذه الحالة من الغموض حول أي سيناريو سيتجه إليه تعديل المدونة، حفزت الناشطين الحقوقيين، لاسيما في مجال المرأة والطفل، إلى إعلان أولوياتهم بشكل صريح، ومحاولة توظيف المؤشرات الرقمية في دعم الأطاريح ألإيديولوجية، حتى ولو كانت الحقيقة السوسيولوجية تسير في الاتجاه المعاكس.

وتبعا لذلك، سجل النقاش العمومي المثار بهذا الخصوص تدافع حزمتين من الأولويات، حزمة يتبناها التيار الحقوقي الحداثي العلماني، وتنتظم مطالباته: منع زواج القاصرات ومنع زواج التعدد، وإلغاء الإرث بالتعصيب، وإقرار المساواة في الإرث، وإنهاء العمل بقبول دعوى ثبوت الزوجية، ورفع القيود والشروط الفقهية على الوصية، وتمكين الأب من الوصية لأبنائه بكل ثروته، وإقرار مبدأ اقتسام الثروة المكتسبة بين الزوجين اثناء فترة الزوجية، واعتبار العمل المنزلي، جزءا من التشارك في بناء هذه الثروة، وتمكين المرأة المطلقة من الولاية القانونية على أبنائها، وإثبات النسب بالحمض النووي، وتمكين ابن الزنا من النسب في حالة الإثبات حتى بوجود فراش.

وفي المقابل، فإن التيار المحافظ، يرى أن أولويته الأساسية، هي عدم المس بالنصوص الشرعية القطعية (عدم المس بنظام الإرث، وبمبدأ ربط النسب بالنسبة للأب بالنبوة الشرعية، وعدم المس بمبدأ جواز التعدد بشروطه، والدفاع عن حق القاصر في الزواج لظروف استثنائية قاهرة، وضرورة فتح المجال لقبول دعوى ثوبت الزوجية، مع التحذير من مخاطر انتشار الطلاق في المجتمع، وانخفاض نسبة الخصوبة).

إذا كان تقرير أعلى سلطة قضائية في المغرب، يؤكد بأن مشكلة زواج القاصرات تفسره عوامل اقتصادية واجتماعية، فإنه يصعب على النص القانوني أن يعدل الواقع بدلا عن السياسات العمومية التي يفترض أن ترفع مؤشرات التنمية في الأوساط القروية التي تكثر فيها ظاهرة زواج القاصر
الملاحظ في هذا النقاش، بعد شبه غائب تماما عنه، يرتبط بالأبعاد الديمغرافية الاستراتيجية، فالطرفين معا، معنيان فقط بالجواب عن سؤال الاستجابة للمرجعية الدولية كما يتطلبها دخول المغرب في العهد الدولي، أو مقاومتها انسجاما مع مرجعية التعديل المنصوص عليها في الخطاب الملكي، بينما لا يقع التركيز على بعد آخر،  يتم في الغالب استبعاده ضمن المعادلات المتشابكة، هو ما يرتبط بالجانب الديمغرافي والمحددات الاستراتيجية التي ترتبط به، والتهديدات التي تمسه، بالنظر إلى ما تكشف عنه المؤشرات الأسرية، لاسيما نسبة الزواج، ونسبة الطلاق، ونسبة الخصوبة.

فالمغرب منذ إحصاء 2004، دخل في ضمن دائرة الحذر، إن لم نقل إنه دخل دائرة الخطر الديمغرافي، بسب انخفاض كبير في نسبة الخصوبة. وهو اليوم، وإن حسن بعض مؤشراته بهذا الخصوص، كما بينت ذلك أرقام المندوبية السامية للتخطيط، كما سيأتي تفصيله، إلا أن مؤشرات ارتفاع الطلاق قياسا إلى مجموع عقود النكاح المسجلة بالمحاكم (ما يفوق في بعض محاكم الأسر 50 في المائة، وبمعدل وطني يفوق 49 في المائة)، يطرح تحديات خطيرة، لا يمكن أن تكون مدونة الأسرة في معزل عن الإجابة عنها، وبحث خيارات ناجعة لتحسين الإقبال على الزواج، والحفاظ على بيت الزوجية، والتقليص من نسب الطلاق، خاصة من طلاق الشقاق، والرفع من مؤشرات نسبة الخصوبة.

فبحسب تقرير: "المرأة المغربية في أرقام 2023" الذي أصدرته المندوبية السامية للتخطيط فقد عرف المغرب انخفاضا ملحوظا في معدل الخصوبة بالمغرب في الفترة ما بين 2004 و2022. لقد انخفض معدل الخصوبة لدى النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و19 سنة إلى 18.8 في المائة سنة 2022، مقارنة مع 19.1 في المائة التي سجلت سنة 2004. كما انخفض معدل الخصوبة بالنسبة للفئة العمرية ما بين 20 و24 سنة من 99 في المائة سنة 2004 إلى 84.5 في المائة سنة 2022، وسجل انخفاض مماثل للفئة ما بين 25 إلى 29 سنة (الفئة الأكثر خصوبة مقارنة بباقي الفئات)، وذلك من 126.6 سنة 2004 إلى 105.9، وعرفت الفئة ما بين 30 و34 سنة أكبر معدل من الانخفاض وذلك من 123.2 في المائة سنة 2004 إلى 93.3 في المئة سنة 2022، ولم تشذ عن قاعدة الانخفاض الفئة ما بين 35 إلى 39 سنة، إذ انتقلت من 81.7 في المئة سنة 2004 إلى 68.6 في المئة سنة 2022.

بخصوص معدلات الخصوبة والإنجاب، فقد أوردت المندوبية السامية للتخطيط في تقريرها الموسوم بـ "المؤشرات الاجتماعية للمغرب ـ 2023" أرقاما تؤكد “استئناف هذه المؤشرات تعافيها وعودتها، ليصل مؤشر الخصوبة التركيبي إلى 2.4 طفل لكل امرأة بالمغرب، (2.1 بالمناطق الحضرية والمدن مقابل 2.4 في أوساط القرى والأرياف).

كما أشارت في التقرير نفسه بخصوص معدلات الزواج التي تم تسجيلها سنة 2021 إلى عودة حالة التعافي من جديد إلى حركية الزواج في أوساط المجتمع المغربي، بعد أن شهد هذا العام تسجيلاً رسمياً لـ 270 ألف عقد، فإن هذا التعافي إنما قاسته المندوبية بالمقارنة مع الركود الذي عرفه تسجيل العقود خلال سنة الوباء (2020) ، أي بالقياس إلى 194 ألف عقد زواج مسجل،  في حين، يبقى الرقم المسجل خلال سنة 2021، أقل  بكثير من المستوى المسجل ما قبل الوباء،  أي سنة 2019 التي عرفت تسجيل 275 ألف عقد زواج، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن عددا كبيرا من طلبات توثيق الزواج التي تم تأجيلها بسبب إكراهات الوباء،  تم تسجيلها سنة 2021.

وعلى الرغم من حرص المندوبية على تأكيد عودة التعافي لنسب الخصوبة أو نسب الزواج في المجتمع المغربي، فإن النسب المسجلة لا تعكس في الواقع الخروج من المأزق الديمغرافي الذي سجله المغرب منذ إحصاء 2004، إذ لم تقدم السياسات العمومية التي اتجهت لحفز الإنجاب (سياسة التعويض عن الأبناء والتعويض عن الولادات) سوى نتائج محدودة، مما يتطلب معه إضافة أبعاد أخرى يمكن أن تشكل خيارات استراتيجية للخروج من التهديد الذي يترقب الهرم السكاني المغربي.

أولويات التعديل بين الإيديولوجيا والحقيقة الاجتماعية

ثمة في الواقع تباين شديد بين ما تهتم به الأطروحات من الأولويات بدافع من الإيديولوجيا، وما تتحدث عنه الأرقام من حقائق السوسيولوجيا.

 فعلى مستوى زواج القاصرات، يسجل تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية عن القضاء الأسري ما بين 2017و 2020، أرقاما جد دالة، إذ بلغت طلبات الإذن بزواج القاصر حوالي 11 في المائة من طلبات الإذن بتوثيق الزواج المقدمة إلى المحاكم المغربية، وذلك بمعدل 25879 طلبا سنويا، في حين لم تقبل منها سوى 46 في المائة، أي بمعدل 5 في المائة من مجموع الطلبات بالإذن بالزواج في البلاد.

التقرير يعزو زواج القاصر لأسباب اقتصادية واجتماعية ترتب عنها إما ضعف في الاستقرار الأسري، أو مستوى تعليمي متدني، فصارت القاصرات ترين في الزواج مخرجا من الأزمة.

وإذا كان تقرير أعلى سلطة قضائية في المغرب، يؤكد بأن مشكلة زواج القاصرات تفسره عوامل اقتصادية واجتماعية، فإنه يصعب على النص القانوني أن يعدل الواقع بدلا عن السياسات العمومية التي يفترض أن ترفع مؤشرات التنمية في الأوساط القروية التي تكثر فيها ظاهرة زواج القاصر، فيتحسن الدخل المادي للأسرة، وتخلق الحافزية لدى الأسرة لتعليم الفتيات تكوينهن، وتتخلق بشكل تلقائي فكرة رفض زواج القاصر بحجة عدم استكمال الدراسة.

إن التيار المحافظ، يرى أن أولويته الأساسية، هي عدم المس بالنصوص الشرعية القطعية (عدم المس بنظام الإرث، وبمبدأ ربط النسب بالنسبة للأب بالنبوة الشرعية، وعدم المس بمبدأ جواز التعدد بشروطه، والدفاع عن حق القاصر في الزواج لظروف استثنائية قاهرة، وضرورة فتح المجال لقبول دعوى ثوبت الزوجية، مع التحذير من مخاطر انتشار الطلاق في المجتمع، وانخفاض نسبة الخصوبة).
أما على مستوى زواج التعدد، يسجل تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية 20 ألف طلب في المدة المشمولة بتقرير المجلس (2017-2021)، حيث قدم العدد الأكبر من الطلبات سنة 2021، وقد تم قبول ما نسبته حوالي 49 في المائة. هذه المعطيات تثبت أن موضوع التعدد لا يمثلا تحديا حقيقيا للمجتمع، فطلبات الإذن بالزواج فيه من بين طلبات الإذن بالزواج في المحاكم المغربية لا تعدى 1.7 في المائة فقط، في حين لا تتعدى الاستجابة له نسبة 0.6 من مجموع طلبات الإذن بتوثيق الزواج المودعة لدى المحاكم.

وبحسب التقرير نفسه، فأسباب التعدد الموضوعية والاستثنائية التي تم الإدلاء بها وتثبتت المحكمة منه، تتعلق بوضعية الزوجة الأولى (عدم القدرة على الإنجاب، وضعية صحية)، ورفض الزوجة المقيمة بالخارج الالتحاق ببيت الزوجية، وإرجاع المطلقة بعد الزواج بأخرى حفاظا على مصلحة الأبناء، ورغبة في التعدد مشفوعة بموافقة الزوجة.

وفي المقابل، فإن المؤشرات المرتبطة بحالة الطلاق، تطرح تحديات وجودية جدية، ومع ذلك، لا يتم الاهتمام بها، ولا توجيه الأولوية إليها، فقد سجل تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية إشكالية خطيرة تتعلق من جهة بارتفاع مطرد لنسب طلاق الشقاق من 77196 حالة سنة 2017 إلى 93405 سنة 2021، ومن جهة أخرى بارتفاع الطلاق  قياسا إلى عقود الزواج المسجلة، فيسجل التقرير أنه من بين 100 زواج يتم تسجيله، ينتهي منه حوالي 50 إلى الطلاق، وذلك بواقع 49.93 في المائة، مما  يشكل تحديا خطيرا على المجتمع المغربي،  ويدق ناقوس الخطر بخصوص التهديد الذي يشكله الطلاق بشكل عام، والتهديد الذي تشكله مسطرة الطلاق الشقاق بوجه خاص باعتباره المسطرة التي جعلت الطلاق أكثر سلاسة من حيث الإيقاع والاستجابة القضائية. ففي سنة 2021، تجاوزت نسبة الطلاق نسبة 50 في المائة قياسا إلى عقود الزواج المسجلة، وذلك بواقع 131305 حالة طلاق مقابل 256547 عقد زواج مسجل (أي بمعدل 51.18 في المائة).

ويسجل التقرير نفسه أن مسطرة التطليق عرفت تضخما كبيرا مقارنة مع مسطرة الطلاق، وذلك بواقع أكثر من 72 في المائة بالنسبة للتطليق، مقارنة مع أقل من 28 في المائة بالنسبة للطلاق، لكن الرقم المخيف الذي سجله التقرير، هو أن طلاق الشقاق من بين مساطر التطليق، شكل نسبة بواقع 71.51 في المائة، بينما شكل التماس المرأة لمسطرة التطليق للإخلال بشروط الزوجية أو لضرر أو لعيب أو للإعسار بالنفقة أو للغيبة أو للهجر والإيلاء نسبة لا تكاد تذكر بواقع 0.55 في المائة من مجموع طلبات التطليق.

التفسير الوحيد الذي قدمه المجلس الأعلى للسلطة القضائية لتضخم هذا النوع من الطلاق هو أن النصوص المؤطرة لطلاق الشقاق لا تشترط مسطرته إثباتا كما هو الحال بالنسبة للتطليق لإخلال بشروط الزوجية أو لضرر أو لعيب أو للإعسار بالنفقة أو للغيبة أو للهجر والإيلاء، كما أنه أقل كلفة، وأسرع من حيث البث (ستة أشهر من تاريخ تقديم الطلب)، ولذلك شكلت مجموع طلبات الطلاق الشقاق ثلاثة أرباع الطلبات المقدمة في مجموع ملفات الطلاق، وذلك بواقع 421036 طلب في المدة المشمولة بتقرير المجلس (ما بين 2017 و2021).

لا يشير التقرير لتفسير آخر، يعود إلى تضخم ظاهرة التوجيه لطلاق الشقاق في نص المدونة، فغالبا ما يتم الاكتفاء بالنصوص المؤطرة لطلاق الشقاق المواد من 94 إلى 97، لكن لا تتم الإشارة إلى مواد أخرى، توجه إلى طلاق الشقاق في بعض الحالات، ومن بينها، المادة 45 التي يوجه فيها النص المرأة التي يريد زوجها التزوج عليها في حال إصرارها على رفض طلبه وإنهاء العلاقة الزوجية إلى مسطرة الشقاق، والمادة 52 التي توجه  الزوجين إلى التماس مسطرة الشقاق في حال إصرار أحد الزوجين على الإخلال بالواجبات الزوجية المنصوص عليها في المادة 51، والمادة 100، وذلك حينما تعجز المرأة عن إثبات  الضرر في مسطرة التطليق لضرر، والمادة 120 في مسطرة الخلع، وذلك إذا تم الاتفاق على الخلع بين الزوجين، وتم الاختلاف على المقابل، وأصرت الزوجة على الخلع بعد تعذر الإصلاح،  وفي المدة 124 المتعلقة بالرجعة، وذلك في حال رفضت الزوجة الرجعة، يمكنها النص القانوني من حقها في التماس مسطرة الشقاق.

التقرير تضمن معطيات أخرى مهمة تتعلق بالسلوك القضائي اتجاه طلبات الطلاق الشقاق، إذ باستثناء القضايا التي وقع فيها الصلح، أو حصل التراجع عن الطلاق من قبل المدعي مع إشهاد بذلك (22.31 في المائة)، فإن نسبة عدم القبول لطلبات الشقاق لم تتعد نسبة 19.03، بينما شكلت نسبة قبول هذه الطلبات 58.66 في المائة.

لا يقدم تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية أي معطيات تتعلق بالأسباب المدلى بها في طلب طلاق الشقاق، ولا المبررات التي لأجلها تم الرفض، مما يجعل السلوك القضائي في التعامل مع نصوص طلاق الشقاق غير مستقر، وخاضع لاعتبارات كل قاضي على حدة.

خلاصة

هذه المؤشرات، التي حرصنا أن نقتصر فيها فقط على حول زواج القاصرات وزواج التعدد والطلاق الشقاق، تقدم صورة حقيقية عن المسافة الموجودة بين الأولويات التي تطرح بدافع من الإيديولوجيا، والأولويات التي تدعمها الحقيقة الاجتماعية، فبينما تلح المؤشرات السوسيولوجية على عدم إمكان إنهاء زواج القاصرات بمجرد مراجعة النص لاعتبارات اقتصادية واجتماعية حاكمة، تصب الجمعيات الحقوقية والنسائية صلب اهتمامها على تجريم زواج القاصرات. وبينما تقول الحقيقة السوسيولوجية أن زواج القاصرات (فقط 5 في المائة في مجموع الزواج) وزواج التعدد (0.6 في المائة ضمن نسب الزواج) لا يشكلان أي تحدي مجتمعي مقلق، تلح الجمعيات الحقوقية والنسائية على جعلهما موضوع الساعة.

وبينما تدق المؤشرات الرقمية ناقوس خطر حقيقي عن التهديد الذي يمس الخصوبة في المغرب، والتهديد الحقيقي (الطلاق) الذي يستهدف تماسك الأسرة المغربية (نصف عدد الزيجات بالمغرب تؤول إلى الطلاق)، فإن الجمعيات الحقوقية، تحارب بعض الخيارات المتاحة لحل مشكلة الخصوبة (مثل زواج التعدد بشروطه) ولا تبذل أي مجهود في التضييق على الطلاق، وبشكل خاص طلاق الشقاق، الذي تعتبره مكتسبا غير قابل للمراجعة أو التقييد، بينما تؤكد الحقائق السوسيولوجية أن أرقامه أضحت تشكل تهديدا حقيقيا الأسرة المغربية.