مقالات مختارة

كي لا تتحول «عاصفة الحزم» لاقتتال عربي وإقليمي!

1300x600
يبدو أن نيران الحرب السنية الشيعية قد بدأت في حصد ضحاياها بين ربوع اليمن، الذي لم يكن يوما منقسما على نفسه بين شوافع وزيود أو غيرهم، ولم يشعرنا نحن العرب غير اليمنيين أبدا بفروق تذكر بين أي من مواطنيه، لكن الفتنة عندما تعم، لا تستثني أحدا، وتفرق بين الأخ وأخيه والأب وابنه؛ تهدر الدم وتنشر الفوضى، وتبرر البعد عن مواجهة الغزوات الصهيو أمريكية المستمرة، وهي غزوات فجرت المنطقة من داخلها، وهدمتها فوق رؤوس سكانها؛ والنظام الرسمي العربي الآيل للسقوط.؛ تحول لشاهد زور شغله ضعفه وتهافته عن دوره الحقيقي، وتحت راياته الممزقة تفاقمت الأوضاع إلى إقتتال عبثي؛ وزاد «التدمير الذاتي»، الذي اكتسح المنطقة، تنفيذا للمقولة الصهيونية، التي تقول: «دع العرب يقتلون بعضهم بعضا»، وإذا ما وصل الحال إلى ذلك الدرك من السقوط والانحدار هل يتصور أحد أنه بمنأى من أن تصيبه ماكينة الإبادة النشطة، منذ أن وطأت أقدام جنود نابليون أرض مصر والشام، وتجددت مع أول فتنة طائفية بمنطقة الخانكة المصرية في 1972، وزادت بعد حرب 1973 وتصاعدت باشتعال الحرب الأهلية اللبنانية، لمدة خمسة عشر عاما؛ وصلت ذروة توحشها في مذبحة صبرا وشاتيلا، ونتج عنها خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، بعد أن تركت الأردن عقب مذابح «أيلول الأسود».. ووصل الحال إلى مرحلة صارت فيها المنطقة بكاملها تحت رحمة المشروع الصهيوني، الذي لا يتوقف عن التوسع!!.

لو طال هذا الوضع لعقدين قادمين لصار العرب أثرا وبقايا توضع في «محميات عرقية».. تحج إليها مراكز الاستشراق، وتذهب إليها وفود المعنيين بدراسات الإنسان الانثربولوجية، والمهتمين باكتشاف عوامل إنقراض الأجناس البشرية، ومقارنتها بما تبقى من أقوام سبقت؛ كالهنود الحمر وأهل استراليا ونيوزيلندا وجزر المحيط الهادي الأصليين؛ وأعدادهم القليلة الباقية؛ بلا ثقافة ولا تراث أو تاريخ ولا عادات أو تقاليد ومعتقدات.. وانتزعت منهم أول صفة للبشر، ويُعرف بها الإنسان، وهي أنه «حيوان تاريخي»، أي له تاريخ وذاكرة ممتدة منذ نشأة الحضارة على أرضه!!.. 

في هذا المناخ السوداوي؛ يتمنى المرء ألا تتطور «عاصفة الحزم» إلى «مَقْتلة برية»؛ يجب العمل على تفاديها وحصرها في المجهود السياسي، الساعي إلى جمع الأطراف المتنازعة على مائدة التفاوض، والعمل على إغلاق ملف العنف العسكري في النزاعات والخصومات البينية العربية والإقليمية. ولا نأخذ في اعتبارنا الدولة الصهيونية، ونحن نحدد مستوى ونطاق النزاعات والخصومات البينية؛ فالمشروع الصهيوني زُرع قسرا بتبني ومساعدة قوى الاستعمار القديم والجديد، وأقامت له كيانا استيطانيا؛ فُرض بالتفوق العسكري، والقدرة على القضم المنظم وممارسة الاستنزاف الدائم، والاقتتال الأهلي والتهجير القسري، ووجود القواعد العسكرية، وتوفير ظهير دولي؛ غير محدود؛ مُرتكز على ظلم فاضح وتأكيد مبررات الإضعاف، والاستهزاء بالقدرات الذاتية، والتمني هو أن يعقل ويتعقل النظام الرسمي العربي، ولا يبدد قوته ويسترد توازنه المفقود. 

وفي هذه الظروف الصعبة يمكن التعويل على دور مصر؛ بمعاونة القابلين به في ترشيد السياسة السعودية؛ والتخفيف من الأثر السلبي لرد الفعل الغاضب من وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في رده على رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مؤتمر القمة الأخير بالقاهرة السبت الماضي؛ وعاد الموقف السعودي إلى ما كان عليه بالنسبة للأزمة السورية، وافتعل أزمة غير مبررة مع روسيا في ظروف حرجة للغاية، ويبدو أن رحيل الملك عبد الله بن عبد العزيز كان سببا في تراجع الموقف السعودي. فجاء غضب الأمير سعود الفيصل مواكبا انطلاق حملة تكفير وتحريض ضد الشيعة المصريين؛ قام بها سلفيون؛ أصحاب سوابق في مذبحة «كفر أبو مسلم» التابعة لـ«أبوالنمرس» بالجيزة، وراح ضحيتها أربعة من الإخوة الشيعة قتلوا سحلا، وكان من بينهم الشيح حسن شحاتة؛ أحد قياداتهم المعروفة، وحدث ذلك في أيام حكم الرئيس المعزول محمد مرسي الأخيرة!!.

والدور المصري يمكنه نزع فتيل الفتن، واعتماد حلول سياسية وسلمية في نزاعات وخصومات العرب البينية؛ في سوريا واليمن وليبيا والعراق وغيرها، وضبط العمل العسكري برؤية واعية تنظر إليه على أنه ليس مطلوبا لذاته، وإذا ما جرى فإنه يجري اضطرارا، ويفتح طريقا للتفاوض وللسعي للانفراج وتجنب التعقيدات. 

والنزوع نحو تكوين قوة عربية مشتركة أو موحدة؛ نزوع إيجابي، وتوجه قديم وحميد؛ ظهر في السنوات الأولى لقيام جامعة الدول العربية، ووقعت الدول المُؤسِّسة على «معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي» سنة 1950، وكانت: المملكة الأردنية الهاشمية، والجمهورية السورية، والمملكة العراقية، والمملكة العربية السعودية، والمملكة المصرية، والمملكة المتوكلية اليمنية. وأخذ هذا التوجه دفعة قوية بانتظام عقد دورات القمة سنويا، حيث عقدت القمة الأولى بالقاهرة في يناير 1964 لمواجهة مخاطر تحويل مجرى نهر الأردن وسرقة المياه العربية من قبل الدولة الصهيونية، ثم تلتها قمة أخرى في الإسكندرية في سبتمبر من نفس العام. وتمخضت عن قرارات هامة منها: تشكيل جيش التحرير الوطني الفلسطيني، وقيام منظمة التحرير الفلسطينية، وإعلان القيادة العربية الموحدة!! 
والقوة العربية المشتركة أو الموحدة تأتي استجابة متأخرة لما نصت عليه «معاهدة الدفاع العربي المشترك»!!، وكان هدفها التصدي للعدوان، واستعادة الأراضي السليبة في فلسطين والجولان وجنوب لبنان وأم الرشراش (إيلات الآن) والاسكندرون وجزر الإمارات العربية وسبتة ومليلية، ولا يستقيم استمرار قضم الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات بالقوة وطرد سكانها؛ لا يستقيم ذلك مع انعدام وجود قوة عربية تحد من عدوان المستوطنين المستمر.

وإذا أراد النظام العربي أن يتوازن ويستقر فعليه الربط بين تشكيل قوات مشتركة وبين إحياء مشروع «محكمة العدل العربية» لفض المنازعات والفصل في الخصومات. وفكرة المحكمة وردت في «ميثاق الجامعة»، واستمرت محجوبة حتى عام 1964، ونالت موافقة «قمة الإسكندرية»، وبعدها بعشر سنوات (1974) وُضِعت مسودة أول مشروع لإنشاء المحكمة، وتعطلت مرة أخرى بسبب توقيع «اتفاقية السلام» مع الدولة الصهيونية، وانتقال مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس، وحين عادت إلى القاهرة عادت صاحبتها الأزمات البينية، إلى أن أزيح الغبار عن المشروع في اجتماع وزراء الخارجية العرب في 1994، وتم طرحه من جديد؛ خلال السعي لتجنب سيناريو الغزو العراقي للكويت، وعلى المملكة العربية السعودية أن تتجنب ذلك السيناريو مع اليمن، ولو كانت المحكمة العربية قائمة، لساعدت في تخفيف التوتر وحلت منازاعات الدول الأعضاء سلميا.

وتجدر الإشارة إلى نشأة المحكمة الدولية، وظهور فكرتها في مؤتمر الصلح بباريس 1919، وأعيد طرحها في مؤتمر جنيف سنة 1937 ووقعت13 دولة على اتفاق يقضي بتشكيل محكمة دولية دائمة، وعجزت «عصبة الأمم» عن تنفيذ ذلك الاتفاق. وبعد الحرب العالمية الثانية وقيام «الأمم المتحدة»، وانعقاد المحاكمات العسكرية للنازيين الألمان في نورمبرج، ومحاكمة قادة الحرب اليابانيين في طوكيو؛ بعدها كلفت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها لسنة 1948 مفوضية القانون الدولي بوضع مسودتين في 1950؛ لم تريا النور؛ بسبب الحرب الباردة، واستمرت ذلك حتى تسعينات القرن الماضي، ومع محاكمات قادة الحرب اليوغوسلافية سنة 1993، ثم محكامة قادة الحرب الرواندية 1994، وبدأت المحكمة الدولية في لعب دورها واستمرت في ممارسته.

وكانت منظمة الوحدة الإفريقية قد أنشأت محكمة لحقوق الإنسان والشعوب الإفريقية؛ تعزيزا لدور اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب؛ وأنشئت بموجب بروتوكول خاص بالميثاق الأفريقي، وتم اعتماده في مؤتمر رؤساء دول وحكومات المنظمة في واجادوجو، ببوركينا فاسو (يونيو 1998). وقد دخل البروتوكول حيز التنفيذ في 25 كانون الثاني/ يناير 2004 بعد أن صادقت عليه 15 دولة؛ زادت إلى 26 دولة. 

وكل ما يلزم مشروع «محكمة العدل العربية» إرادة عربية جادة وحاسمة تنزل به إلى حيز التنفيذ؛ وبها يعتمد العرب على آلية قانونية وقضائية، تتكفل بالحد من العمل العسكري، وتخفف من التوتر وتفض المنازعات بالطرق السلمية.



(نقلا عن صحيفة القدس العربي)