قضايا وآراء

محاولة فرض التقسيم الزماني للأقصى: بين الأمر الواقع وميزان القوى

1300x600
رغم ما يبدو على السطح من إيحاء إسرائيلي بالثقة والتفوق، ومن اقتحامات متتالية للأقصى على مدى ثلاثة أيام حتى الآن مرشحة للزيادة، وإقفال المسجد أمام المرابطين والمرابطات في فترة الصباح على مدى أربعة أسابيع حتى الآن، إلا أن التشخيص الموضوعي يقول بأن الحكومة الإسرائيلية تحاول فرض التقسيم الزماني في وقت لا يسمح ميزان القوى لها به، وبأنها تقفز قفزة في الهواء، وهي تحاول من خلال حديث صحافتها عن "عملية عسكرية" في الأقصى، وخطوات كبيرة قادمة، أن تخفي ترددا كبيرا وتوجسا مما قد تجلبه عليها محاولة فرض التقسيم.

ليس هذا هذيانا، أو حالة إنكار يدخلها مريض بمرض عضال بعد إخباره بمرضه، بل هو تشخيص موضوعي مبنيّ على دراسة ميزان القوى، وعلى إدراك لمساحات الممكن الواسعة التي لم تستغلها الأمة العربية أو الإسلامية في مواجهة المحاولة الصهيونية الحالية لفرض التقسيم على مدى الأسابيع الماضية.

محاولة فرض التقسيم وموازين القوى

على المستوى الداخلي يقود بنيامين نتنياهو حكومة أغلبية بسيطة قائمة على اليمين واليمين المتطرف، بأغلبية 63 نائبا من أصل 120، يخاصمه فيه بعض أقرب حلفائه فكريا وموضوعيا أفيغدور ليبرمان، وتنتظر معارضة المركز واليسار أي سقطَة للانقضاض عليها لأسباب عدة، بينها طول انتظارها خارج الحكومة، والكره الشخصي الذي راكمه نتنياهو في نفوس زعمائها.

على مستوى المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية فقد شهدت الفترة الماضية عدة استفزازات دفعت أجهزة الأمن الإسرائيلية لرفع مستوى التحذير من إمكانية نشوب مواجهة في الضفة الغربية، وكانت التقديرات واضحة بعد إحراق عائلة دوابشة، بأن هذا الهدوء لم يكن ليستمر لولا التنسيق الأمني، وأن الهدوء يرتكز لحد كبير على الأداء الأمني لسلطة رام الله ولم يعد قائما على بيئة سياسية مهيأة في غياب وعد بحلّ أو حتى عملية تفاوضية بالحد الأدنى، وفي غياب الأمن الشخصي لسكان الضفة الغربية أو قطاع منهم، وفي ظل التهويد المتصاعد للأقصى والمقدسات.

على مستوى الإقليم فتعيش الدولة الصهيونية اليوم في إقليم مشتعل ومتحرك، يصعب التنبؤ فيه بما قد يحمله الصباح التالي، وهذا ما يدفعها للمناورات المتتالية على الجبهة الشمالية، وإلى بناء جدار حتى مع حدودها الأكثر أمنا وهدوءا واستقرارا مع الأردن.

أما على المستوى الدولي، فيشهد العالم اليوم انحسارا مستمرا للدور الأمريكي، ولقدرة الولايات المتحدة على التدخل المباشر حول العالم، وهو ما يعطي مساحات تحرك لقوى عالمية أصغر حجما، وللقوى الإقليمية الكبيرة نسبيا التي باتت تتحرك بحرية أكبر، وهو ما يعني أن الغطاء الأمريكي المطلق لم يعد يؤتي القطاف ذاته، وقيمته آخذة بالتراجع النسبي عاما بعد عام. ناهيك عن أزمة العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية الحالية على خلفية الاتفاق النووي الإيراني، وعلى خلفية سلوك نتنياهو الأخير تجاه الإدارة الأمريكية خلال الانتخابات الإسرائيلية الماضية.

صحيح أن الوضع العربي أسوأ حالا، وأن هناك حالة تشرذم واحتراب داخلي وأداء سياسي خال من الحدود الدنيا من المسؤولية في دول إقليمية كبرى، إلا أن وجود الأزمة على الطرفين يعني ببساطة بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وأن لا يتمكن طرف من تمرير تغييرات كبرى لمصلحته ما دام الميزان لا يسمح بذلك؛ وإقبال الحكومة الإسرائيلية على مثل هذا التغيير مرتبط أكثر بتطرف وزرائها الذين يحتل أعضاء جماعات المعبد الدينية-القومية 7 حقائب وزارية فيها، وبِرهان لدى البقية على أن العرب قد تمرّ عليهم تغييرات لا يسمح بها ميزان القوى بفعل الهزيمة النفسية المزمنة، وهو أمر سبق له أن حصل غير مرّة. 

هذا يعني باختصار بأن الرد الجاد -إن جاء- كفيل بأن يعرّي واقع الحكومة الإسرائيلية في هذا الميزان، وأن يفعّل نقاط الضعف وثغرات القوة من حولها، وأن يدفعها بالتالي إلى التراجع عن محاولة تمرير التقسيم الزماني ولو لفترة، وهذا "الرد الجاد" يقودنا إلى الشق التالي من هذا التحليل، وهي مساحات الممكن المضيّعة.

مساحات الممكن المضيّعة فلسطينيا وعربيا وإسلاميا

البداية أولا على مستوى القدس: يبلغ عدد سكان البلدة القديمة من العرب نحو 34,000 نسمة، بينما يبلغ عدد حملة بطاقات الإقامة المقدسية الزرقاء نحو 300,000، وإذا ما علمنا أن عدد المعتكفين في الأقصى ليلة الاثنين كانوا 20 مرابطا، فهذا يعني أن 6 من كل عشرة آلاف من سكان البلدة القديمة للقدس شاركوا في الاعتكاف ليلا، وأن نحو 7 من كل مائة ألف مقدسي شاركوا، فضلا عن أن إجمالي من شارك في المواجهات في الأقصى نهارا لم يتجاوز المئات.

هذا يعني ببساطة -وبعيدا عن نزعة تملق الجماهير السائدة اليوم- أن الدفاع عن المسجد الأقصى والرباط فيه لم يكن خيارا شعبيا مقدسيا من الأساس خلال المواجهة الحالية، وأن من رابطوا في المسجد للدفاع عنه كانوا ثلة قليلة معزولة تمكن الاحتلال من الاستفراد بهم وسط مئات آلاف لامبالية، أو عاجزة.

لم نشهد في القدس إضرابا، ولا إغلاقات، ولا هبة شعبية على غرار هبة رمضان صيف عام 2014، ولا حتى عمليات فردية. أيُّ من هذه كفيل بأن يعيد معادلة الردع إلى نصابها، وأن يضع الحكومة الإسرائيلية وجها لوجه أمام حقيقة ميزان القوى المختل، كما سبق لأفراد ذوي إرادة أن فعلوا مثل الشيخ المجاهد خضر عدنان والأسير محمد علان.

على مستوى الأراضي المحتلة عام 1948 فهناك شعور عام بالاستنزاف، رغم أن الحركة الإسلامية سبق لها أن قامت بمسيرات شعبية كبيرة سابقا تمكنت من قلب الميزان، لكنها تبدو عاجزة عن ذلك أو مستنزفة اليوم، أما في الضفة الغربية فالتنسيق الأمني مستمر بلا أفق، وبلا وعد بأي مستقبل، وبلا منافع؛ بلا أدنى عقل أو منطق يمكن تسويغه به.

على المستوى الشعبي العربي والإسلامي فعواصم الجوار موات، حتى الأردن الذي اعتاد مسيرات شد الرحال الرمزية إلى الحدود انكفأ عنها هذا العام، رغم أن تحركا حاشدا في أي من العواصم العربية كعمّان أو الرباط أو تونس أو الخرطوم كفيل بأن يحرك بركة العجز العربي الآسنة، وبأن يستدعي سلسة فعل يثمر من خلال الضغط على الحكومات والأنظمة، وسبق له أن أثمر عند محاولة نتنياهو استبدال الجسر الخشبي في شهر 11/2012. 

أخيرا على المستوى الرسمي، فعلى مدى أربعة أسابيع من المواجهة الحالية، وثلاثة أيام من الاقتحامات الدموية المتتالية لم تصل القضية كمشروع قرار لا في مجلس الأمن، ولا في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ولا في اليونيسكو، مع أن الأردن -الوصي المباشر على المسجد- عضو اليوم في مجلس الأمن، فما نفع هذه العضوية إن لم تستخدم للدفاع عن أقدس مقدسات الأمة الواقع تحت المسؤولية المباشرة للدولة الأردنية؟ وما قيمة حُمّى الرمزيات ورفع علم فلسطين في ساحة الأمم المتحدة مقابل العدوان على الأقصى، ألم يكن العدوان على الأقصى أولى بالجهد الدبلوماسي الفلسطيني؟

باختصار، لم يقم أحد بالممكن القائم بين يديه حتى الآن، والقبول بتمرير التقسيم الزماني دون القيام بالممكن، ورغم أن ميزان القوى لا يسمح بتمريره، هو عجز يتمدد من الأيدي والجوارح إلى العقول والأفهام حتى لا تعود تتعرف على واقع القوى أو مساحات الممكن، وواجب الساعة واللحظة هو أن يقوم كل طرف بكل ما بين يديه من مساحات الفعل الممكنة، وهذا وحده كفيل بوقف مخطط التقسيم الزماني بشكل فوري ولو إلى حين، وبمنع مبادرة الصهاينة لما هو أسوأ مستثمرين حالة العجز الحالية.