كتب

دروز فلسطين من التيه إلى زمن الغفلة.. قراءة في كتاب

كيف عمل الاحتلال على توظيف الدروز في اختراق النسيج الفلسطيني؟ وقائع تاريخية يرصدها هذا الكتاب.
كيف عمل الاحتلال على توظيف الدروز في اختراق النسيج الفلسطيني؟ وقائع تاريخية يرصدها هذا الكتاب.
الكتاب: دروز في زمن الغفلة.. من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية
الكاتب: قيس ماضي فرو
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى، بيروت، 2019م
عدد الصفحات: 416 صفحة.


تعرض هذه الدراسة أوضاع الطائفة الدرزية في فلسطين، من خلال الأرشيفات الإسرائيلية والمصادر الأولية التي تعامل معها الكاتب بحذر شديد، من منطلق أن الأرشفة، في حد ذاتها، تتبع إلى أهواء ونوازع واهتمامات واصفيها، في ظل غياب مواد أرشيفية فلسطينية، كما أن الأرشيف الصهيوني يتواءم مع أهداف الحركة الصهيونية؛ لذلك يسعى الكاتب إلى البحث عن الرواية الفلسطينية في ثنايا الأرشيفات الإسرائيلية، بمساعدة المصادر الأولية الأخرى، والاعتماد على الرواية الشفوية بما تضمنتها من شهادات، لتحريرها من سطوة الأرشيفات الإسرائيلية.

يعود الاهتمام الصهيوني بالدروز إلى عهد الانتداب البريطاني، فقد كتب العديد من الأكاديميين، والرحالة اليهود، والمستشرقين عن الطائفة الدرزية في فلسطين، أماكن وجودها، وتاريخهم، ومدى التشابه بينهم، اعتبر الرحالة اليهودي المشهور (رابي بن بنيامين التطيلي) الأندلسي أول من وصفهم" أنهم أمة تحارب رجال صيدا وتسمى درزيان، يقطنون الجبال والمناطق الصخرية، وليس عليهم ملك أو وزير أ وحاكم. وهم يحبون اليهود وهم قوم متمرنون على تسلق الجبال والروابي، ولا يستطيع أحد أن يحاربهم."، كما أن (إسحاق بن تسفي) ثاني رئيس لدولة الاحتلال، عمل على إيجاد تشابه بين الدروز واليهود، وأعاد ذلك التشابه إلى أساس النشأة من حيث مصير الأقلية الدرزية واليهود، وما قاسوه من اضطهاد ديني، بلغ حد زعمه السلب والنهب والمذابح، كل ذلك قرب الدروز إلى مصير الأقلية اليهودية، مما يجعل كل منهما يتقرب نحو الأخر.

يقول (بن تسفي) عن الدروز بأن لديهم قدرة على التكيف مع الأوضاع حسب الزمان والمكان، فهم يصلون في المساجد مع المسلمين، وفي الكنائس مع المسيحيين، فهو نوع من أنواع حماية النفس المعتمدة على التظاهر بالانتساب مع الطرفين؛ لذلك فهم يمارسون مبدأ "التقية الدينية" (ص10)،  وضع المؤلف بعض الملاحظات على مبدأ التقية التي في أصلها اللغوي كلمة مأخوذ من الفعل اتقى، بمعنى أخذ الحذر؛ أي إخفاء المعتقدات في أوقات الخطر، وهي وفق قناعته: الأداة المعرفية التي تفسر قدرتهم على التكيف في الدولة الصهيونية وإظهار ولائهم لها، على أساس أن المسلمين أساؤوا معاملة الدروز، في حين عاملهم اليهود معاملة حسنة لهم!! وهو ما حاول أن يروج له (بن تسفي) بعدم ممارسة اليهود أي اضطهاد ضد الدروز، ومحاولة إيجاد مصير مشترك بينهم، واستغلاله لشق وحدة الصف الفلسطيني.

تناول المختص بدراسة الإسلام (أهارون لايشن) عام (1933م) مبدأ التقية عند الدروز، معتبرا إياه عنصرا مركزيا في سلوك الدروز، فهو حاضر  في جميع مظاهر حياتهم، تمارس من منطلق التقية نحو الإسلام، وهي حاضرة في مظاهر حياتهم، تؤكد الأرشيفات أن عدد الدروز كان (7000) نسمة عام (1922)، ونحو (14.000) عام (1950م) في معظمهم فلاحون منغلقون في قراهم الجبلية، تربطهم علاقات حسنة قديمة، مهدت للعلاقات الجديدة التي بدأت مع مرحلة الانتداب البريطاني، فكانت الأساس لاستمرار العلاقات الدرزية الإسرائيلية فيما بعد.

دروز فلسطين أمام وضع جديد

يعد الوجود الدرزي في فلسطين امتدادا لوجودهم في بلاد الشام، الذين يعتمدون في شؤون حياتهم على المذهب الإسماعيلي، الذي انشق عن مذهب الشيعة الاثني عشرية في نهاية القرن الثامن الميلادي، حيث سكنوا خمس مناطق أساسية:

1 ـ منطقة الجبل الأعلى أو جبل السماق القريب من المدينة السورية.
2 ـ غوطة دمشق وريفها.
3 ـ الغرب من جبل لبنان.
4 ـ وادي التيم في سفوح جبل الشيخ الغربي.
5 ـ منطقة الجليل الفلسطيني.

على الرغم من أن دروز فلسطين حافظوا على تواصلهم الاجتماعي بدروز سوريا ولبنان خلال فترة الانتداب، فإن تقسيم كل من الاستعمار البريطاني والفرنسي بلاد الشام إلى كيانات سياسية جديدة، أدى إلى فصل المسار السياسي لدروز فلسطين عن المسارات السياسية لدروز لبنان وسوريا، فبينما أدت النخب الدرزية دورا مؤثرا في السياسة العامة للبنان وسوريا، بقيت نخب دروز فلسطين بعيدة عن السياسة العامة، وظهر التنافس في فلسطين بين ثلاث عائلات درزية، استطاعت خلال القرن التاسع عشر زيادة نفوذها السياسي والديني داخل حدودها القروية، مع وجود تنافس بين زعماء العائلات، هي:

1 ـ (عائلة خير) من قرية أبو سنان التي عززت نفوذها في فترة حكم المعنيين (1594 ـ 1697)، عندما اتخذ أحد أمراء المعنيين من القرية مركزا لإدارة سنجق صفد، بالإضافة لاختيار الدولة الإيرانية (الشيخ يوسف صالح خير)، للعمل قنصلا لها في مدينة عكا.

2 ـ (عائلة معدي) من قرية يركة، وأقامت العائلة علاقات جيدة مع الإدارة العثمانية، ونتيجة لذلك عينت أحد زعماء العائلة مسؤولا عن جباية الضرائب من فلاحي قرية يركة.

3 ـ (عائلة طريف) من قرية جولس، وطدت زعماتها إبان الحكم العثماني، مع تعيين (الشيخ طريف محمد طريف) قاضي مذهب الدروز في ولاية بيروت، وحافظت سلطة الانتداب البريطاني بإبقاء الشيخ طريف في منصبه قاضيا للطائفة الدرزية.

ترقب وتدخل

استغلت الحركة الصهيونية الحوادث ذات الطابع الطائفي لإبعاد الدروز، وكانت أول حادثة تدخلت بها العناصر الصهيونية وقعت (في 7 تموز 1930م)، حين دخلت مجموعة من أفراد الشرطة مسلمون سُنة إلى قرية الرامة والمغار، للبحث عن المتهمين بقتل شرطي مسلم سني، وأثار العنف الذي استخدمه أفراد الشرطة ضد المعتقلين نقدا شديدا من اللجنة التنفيذية العربية، المنبثقة من المؤتمر العربي الفلسطيني، التي حاولت احتواء الحادث ومنع محاولات زرع الفرقة بين الطائفتين، قبيل استغلال (يوسف نحماني) مدير مكتب الصندوق القومي اليهودي في طبرية للموقف، فقد عرض خدماته للضغط على سلطات الانتداب البريطاني لإطلاق المتهمين من أبناء الطائفة الدرزية، ووصفهم "المسالمون"، ولم يشاركوا في أحداث هبة البراق، فكان ذلك بمنزلة الخطوة التحضيرية الأولية لإقامة علاقات مع الدروز (ص37).

بالرغم من محاولات الحركة الصهيونية إقامة علاقات صداقة مع الطائفة الدرزية، إلا أنها اصطدمت بعقبات أولها الشجار الذي وقع بين دروز ويهود في قرية البقيعة، إذ تمكن (الشيخ سلمان الطريف) من التوسط بين طريفي النزاع وأوقف الشجار، ومن ثم انقسم الموقف الدرزي إلى قسمين؛ أما القسم الأول فتمثله (عائلة طريف) التي استطاع زعماؤها رفع عريضة للمندوب السامي، مذيلة بتوقيع (96) اسما، يطالبون فيها بـ:

1 ـ تمثيل سياسي للدروز في المجلس التشريعي الفلسطيني المنبثقة عن سلطات الانتداب.
2 ـ الاعتراف بمؤسسات الدروز المذهبية.
3 ـ الحفاظ على علاقات حسنة مع سلطات الانتداب البريطاني بتحييد طائفتهم من الصراعات الداخلية.

أما القسم الثاني، فيمثله عائلة (عبد الله خير) العائد لقرية أبو سنان بعد تخرجه من الجامعة الأمريكية، الذي عمل على تأسيس جمعية الاتحاد الدرزي بموافقة السلطات البريطانية (1932م)،  مفجرا بذلك خلافا حادا بين عائلته وعائلة طريف، عرف باسم خلاف الجمعية، الذي استغل لشق صف الطائفة الدرزية إلى فريقين متنازعين، عبر عن ذلك (أهارون حاييم كوهين) ، أبرز نشطاء الحركة الصهيونية في تقريره، بعد زيارة القرية الدرزية بأربعة موضوعات، هي: موقفهم من اقتناء الحركة الصهيونية من أراض فلسطينية في الجليل، تطوير العلاقات الصهيونية الدرزية، القلق إزاء العلاقة بين الدرور بالحركة الوطنية الفلسطينية، علاقاتهم بأبناء طائفتهم في سوريا ولبنان. إلا أن (كوهين) لم يذكر من الذي استضافه في تلك القرى! وما ردهم على تلك الموضوعات التي طرحها (ص42).

عملت الحركة الصهيونية منذ بداية الثورة الفلسطينية الكبرى عام (1936م)، على إبعاد الدروز عن المشاركة في الثورة، مستخدمين الإشاعات، والتهديد، والإغراءات لزرع الفرقة بين الدروز والمسلمين، إلا أن بعض المجموعات الدرزية السورية واللبنانية، انضمت للثورة الفلسطينية، وهو إزعاج الحركة الصهيونية، كما أن بعض الدروز عارضو الانضمام إلى الثورة على مبدأ " الحياد"، والفائدة من عدم الدخول إلى جانب العصابات العربية حسب وصفه، فقد وزع (يوسف نحماني)، منشورا بين الدروز، طلب منهم عدم الانضمام للثورة، وتحدث عن الازدهار الذي يعود فضله لليهود، بالإضافة لتأكيده حتمية النصر لليهود على الثورة بسبب دعم بريطانيا لليهود، التي أخذت على عاتقها تنفيذ تصريح بلفور.

صداقة مع الدروز

كثفت الحركة الصهيونية اتصالاتها لعقد اتفاق صداقة مع الدروز، عقب وروود أخبار بأن أعدادا من المقاتلين الدروز، يتحضرون للانضمام إلى الثورة الفلسطينية، وعمل (أبا حوشي) مع الحركة الصهيونية بشكل مكوكي لإبرام اتفاق مع الطائفة الدرزية، وقد أدى (سلطان الأطرش) ممثل الطائفة الدرزية استعداده لإبرام اتفاق مبني على المساعدة المتبادلة، وبعض التحسينات الاقتصادية المتعلقة بـ"مصادرة المياه، وتطوير الزراعة، وبعض القروض"، مقابل العودة إلى موقف الحياد والتأثير على دروز لبنان وفلسطين لتبني مبدأ الحياد (ص57).

بين مطرقة التخطيط وسندانة الغفلة

اعتمد المؤرخون الصهاينة في زعمهم أن خطة نقل "ترانسفير" دروز فلسطين، هي مطلب درزي استجاب له حاييم وايزمن ودافيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهودية، الذين قدر عددهم بحوالي عشرة آلاف؛ بحجة أنهم لاقوا المعاناة في الأرواح والأملاك، وأن الكثير منهم فكر بترك فلسطين والانتقال إلى سوريا، تضمنت الخطة:

1 ـ إنقاذ دروز فلسطين من المعاناة في الأرواح والممتلكات.
2 ـ شراء أراضيهم من قبل الحركة الصهيونية بمبالغ مالية عالية.
3 ـ  نتيجة توفر المال، فإن دروز فلسطين يعني أنهم سيعمرون الجبل والقرى المهجورة فيه.
4 ـ عدم القلق على دروز فلسطين ومصائبهم بعد النقل إلى الجبل ص88.

عملت الحركة الصهيونية على تنفيذ خطة النقل مستعينة بالترغيب تارة، والتخوين تارة أخرى، واستخدمت العديد من المراسلات التي كان يديرها (آبا حوشي) لإثارة دروز سوريا؛ بهدف تسهيل تنفيذ خطة نقل دروز فلسطين، وركز السماسرة والمتعاونون على إقناع دروز فلسطين بيع أراضيهم، والهجرة لكي يسلموا من الخطر المحدق بهم (ص95).

يقول الكاتب: "بعد التشاور مع سلطان الأطرش- من سوريا-، شرع في الكتابة إلى دروز فلسطين، يشجعهم على بيع أملاكهم... أنا بدوري رحت أكتب لجماعة من الأقارب والأصحاب هناك في فلسطين ليشرفوا، ونسألهم عن أحوالهم، إذا كان عندهم أي ضائقة... فالبلد أي جبل الدروز التي تسعنا لا تضيق بهم، وحالا وعلى الفور، أتاني ثلاثة كتب من جماعة الدالي (دالية الكرمل) وكتاب عسفيا، كلهم يقولون بأنهم متضايقون في معيشتهم... وأن البعض أرسلوا عائلاتهم عندنا كي يلحقوا بهم عندما يصرفون شيئا من أملاكهم، إذا وجدوا من يبتاعها منهم، فأكدت ثانيا بلزوم مجيئهم وترك تدبير بيع أملاكهم عليّ" (ص96).

مع تأخر وصول المال المطلوب لعقد صفقات شراء الأراضي، اقتنصت الحركة الصهيونية فرصة المناوشات الطائفية التي وقعت في شفا عمرو عام 1939 م، ووصلت أخبارها إلى زعماء دروز لبنان وسوريا، فكثف (آبا حوشي) ومعاونوه في إقناع دروز من الجليل والكرمل على بيع أراضيهم وتنظيم سفرهم إلى سوريا، حيث توالت الهجمات على حارة الدروز وقتل اثنان منهم، حتى مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي أدت لركود في اقتصاد فلسطين، ونفاد أموال الوكالة اليهودية المطلوبة لمواصلة تنفيذ خطة نقل الدروز، إلا أن الخطة انتابها بعض العثرات أهمها الصعوبات المالية، ومساعي الصلح بين دروز شفا عمرو ومسلميها، خصوصا بعد أن حكمت السلطات البريطانية على سبعة أشخاص بالإعدام؛ لإدانتهم بقتل دروز من شفا عمر، وتعذيبهم.

أوعزت سلطات الانتداب البريطاني إلى وجهاء الطوائف العربية لاحتواء الموقف، بتشكيل لجنة صلح بمشاركة سلطات الانتداب الفرنسي"، وافق الطرفان المتنازعان على صيغة اتفاق عقدت على أساسه رايات الصلح في كانون الأول/ يناير عام 1940م، بحضور آلاف من دروز ومسلمي فلسطين، وتمت المصادقة على الاتفاق في شفا عمرو، وأدى ذلك لتجميد خطة نقل دروز فلسطين، ويشير الكاتب: "ساهم صلح شفا عمور في تضميد جروح خلافاتها الطائفية، وفوت على آبا حوشي ومعاونيه فرصة ذهبية لتنفيذ خطة نقل دروز فلسطين إلى جبل الدروز"، ومما أفشل الخطة أيضا، صدور الكتاب الأبيض لعام 1939 م الذي فرض قيودا على الصهيونيين لشراء أراض (ص113).

فن الترويض.. العصا لمن عصى والجزرة لمن أطاع

العصا الإسرائيلية للعرب السيئين، والجزرة للعرب الطيبين من المنظور الإسرائيلي، سياسة طبقتها إسرائيل على فلسطيني الداخل، منذ أن فرضت الحكم العسكري عام 1966م، إذ اعتبرت العرب خطرا أمنيا، فرضت عليهم الإقامة الجبرية، خاصة الناشطين السياسيين منهم، وتمت مصادرة أملاكهم، وعينت ثلاثة حكام عسكريين للجليل، المثلث، منطقة الجنوب، ومنعت طباعة الصحف العربية، وقيدت تحركاتهم دون تصريح؛ كي يخلو لها الأمر للسيطرة على سكان القرى العربية، وفي سبيل الإسراع من ذلك، نفذت سياسة العصا والجزرة (ص225).

وضعت وزارة الأقليات خريطة طريق للتعامل مع سكان القرى العربية عبر حصر:

1 ـ عدد السكان العرب في القرية قبل الاحتلال وبعده، وتوزيعهم بحسب الجنس ذكورا وإناثا، والطائفة الدينية، عدد اللاجئين الذين لجؤوا إليها من قراهم المهجرة.
2 ـ أسماء العائلات في القرى، عدد أفراد كل واحدة، ومدى قدرة وجهاء القرية على تمثيل سكانها.
3 ـ أسماء الأكثر تأثيرا، أعمارهم، وأهميتهم، ومواقفهم قبل الاحتلال وبعده.
4 ـ طوبوغرافيا القرية، ومساحة أراضيها.
5 ـ أوضاع العمالة، الغذاء، التعليم، الصحة، وعدد أجهزة الراديو في القرية.
6 ـ عدد نسخ جريدة اليوم الرسمية الموزعة في القرية، ومدى سماع سكانها الناطقين بالعربية.

إن نسبة خسارة القرى الدرزية من أراضيها نتيجة المصادرة، وصلت إلى 68% هي أعلى من نسبة مجمل خسارة القرى العربية الأخرى من الأرض التي وصلت إلى نحو 60% حتى بداية القرن الحالي"، وهذا يعني أن خدمة الدروز في الجيش الإسرائيلي لم تشفع لسكان القرى الدرزية، ولم تحمهم من سياسة سلب الأرض، فعلى سبيل المثال خسر سكان قرية بيت جن 86.5% من أراضيهم.
ومن ثم ركز الكاتب على قريتي دالية الكرمل وعسفيا كمثال لما جرى في القرى الدرزية، ونموذجا للسياسة التي اتبعتها المؤسسات الإسرائيلية خلال ثلاثة عقود من إقامة دولتهم؛ لأن المجندين في وحدة الأقليات جاؤوا في أغلبهم من هاتين القريتين، عبر متابعة الأوضاع المعيشية الصعبة، وبدأت بالتحكم في توزيع حصص الغذاء من السلطات العسكرية، واستخدم التوزيع ورقة سياسة للتأثير في مواقع المخاتير، التي كادت أن تحدث نزاعات عنيفة بين عائلات القرى والقرى المجاورة (ص229).

طرح الكاتب نماذج لسياسة العصا والجزرة عبر نموذجين، هم الشيخ نجيب منصور مختار قرية عسفيا، الذي" استطاع تشكيل لجنة توزيع حصص الغذاء، إلا أن (شخيفتش وغيورا ازيد) قسما عائلات القرية إلى قسمين؛ قسم سلبي تلقى ضربات العصا، وقسم إيجابي حصل على الجزرة"؛ ففي كانون الأول/يونيو عام 1948م، صادر الجيش الإسرائيلي محتويات كوخ ملآن، بأدوات زراعية، وأثاث من أراضي مرج بن عامر، يملكها الشيخ عبد الله منصور أحد أبرز أجاويد القرية، الذي طالب بإعادة المواد المصادرة لكن الجيش لم يكتف بمصادرة هذه المواد فحسب، بل صادر سيارة جيب كان يملكها هذا الشيخ." (ص232).

اعتبر الشيخ عبد الله أن عملية المصادرة عمل مقصود، لمنع أبناء بيته من الوصول إلى أراضيهم في مرج ابن عامر، ومنعه من السفر إلى قرية المغار التي كان أبوه يملك فيها معصرة زيتون، ومنع أبيه من الاشتراك في المجالس الدينية في الجليل. والنموذج الثاني تعين رسلان أبو ركن موظفا شهريا؛ ليكون مسؤولا عن توزيع حصص الغذاء في قرية عسفيا، هذه الجزرات التي حصلت عليها عائلة أبو ركن، دفعت وجهاء عائلة منصور إلى تكثيف شكاواهم ضد عصا (شخيفتش) (ص232).

نموذج آخر يطرحه الكاتب، تمثل في انتخابات الكنيست الأولى عام 1949م، "إذ إن مخاتير ورؤساء العائلات في القرى الدرزية، تسابقوا في أغلبيتهم إلى تجنيد الأصوات للقائمة العربية المرتبطة بحزب العمل الإسرائيلي (مباي) أو للحزب نفسه، الذي كان تحت سيطرة المؤسسات الصهيونية، حيث عمد (شخيفتش وغيورا زايد) إلى مهمة حشد تأثير مخاتير رؤساء العائلات في القرى الدرزية لمصلحة الحزب الحاكم، واعتبر ناشطو حزب العمل التصويت للحزب الحاكم مؤشرا على الولاء للدولة الجديدة... بينما اعتبروا التصويت للحزب الشيوعي وحتى للأحزاب الصهيوني الأخرى، احتجاجا ضد المؤسسات الرسمية للدولة". طالب غيورا زايد من السلطات العسكرية ردع كل من الشيخ عبد الله منصور من عسفيا، ونور الدين الحلبي في دالية الكرمل لمواصلة نشاطهم السياسي، ومنع الشيخ منصور من السفر إلى الجليل (ص234).

القوى الإيجابية والقوى السلبية

أطلق (غيورا زايد) هذا المصطلح في 11 نيسان 1949م، في أثناء نزع السلاح من القرى الدرزية،  ومازال من المصطلحات المستخدم داخل دولة الاحتلال، للتمييز بين القوى الإيجابية من النخب الدرزية المتماهية مع سياستهم، والقوى السلبية المعارضة لهذه السياسة، الذي بدأ مع مطالبة ثمانية العاطلين عن العمل في دالية الكرمل لوزير الأقليات الإسرائيلي، بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية في قريتهم. "نحن جميعا كنا مستخدمين في الحكومة السابقة، البعض في دوائر البوليس النظامي، وأحدنا في دوائر سكة الحديد، والآخر بدائرة البوسطة البريد... وكل منا صاحب عائلة، ولا يوجد لدينا أية وسيلة أخرى لإعالتها"؛ لتبدأ مرحلة جديدة من تجنيد الدروز، ليتم استيعابهم وفق مصطلح القوى الإيجابية في الشرطة الإسرائيلي التابعة لشرطة حيفا والشمال الفلسطيني (ص238).

استغلت إسرائيل أحداث تنكيل أديب الشيشكلي بالدروز عام 1954م،  في إطار معارضة حكمه، بعد أن تولى رئاسة الجمهورية السورية، فغطت الصحف والإذاعة الإسرائيلية أخبار التنكيل بهدف إثارة الرأي العام الدرزي في الجليل والكرمل، حيث عمت التظاهرات المنددة بأعمال الشيشكلي، وفي غمرة هذا التعاطف الطائفي، تناست القيادات الدرزية في دولة الاحتلال خلافاتها، وطالبت من الحكومة الإسرائيلية التوسط عبر التواصل مع الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والدول الصديقة لإيقاف ما يجري ضد الدروز في سوريا !! أرادت إسرائيل بتلك الحادثة تحشيد كل أبناء الطوائف العربية، وجعل تجنيد الدروز في الجيش الإسرائيلي تجنيدا إجباريا، لكنه اصطدم برفض البعض منهم (ص276).

أنهى الكاتب دراسته بالقول؛ إن نسبة خسارة القرى الدرزية من أراضيها نتيجة المصادرة، وصلت إلى 68% هي أعلى من نسبة مجمل خسارة القرى العربية الأخرى من الأرض، التي وصلت إلى نحو 60% حتى بداية القرن الحالي"، وهذا يعني أن خدمة الدروز في الجيش الإسرائيلي لم تشفع لسكان القرى الدرزية، ولم تحمهم من سياسة سلب الأرض، فعلى سبيل المثال خسر سكان قرية بيت جن 86.5% من أراضيهم.
التعليقات (3)
د. هشام ابو عودة
السبت، 05-08-2023 04:44 ص
أشكر الدكتورة إلهام على هذا العرض الرائع للكتاب والذي تناول جميع جوانب الموضوع بشكل أكاديمي متميز… ما أود إضافته هنا جوانب لم يتناولها الكتاب أصلاً وهو مشاركة الدروز في العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة مع الجيش الصهيوني؛ وقد تجلت كراهيتهم وحقدهم على المسلمين السنة عندما احتلوا مدينة خانيونس يوم 3 نوفمبر عام 1956؛ ولم يتورعوا عن القيام بمجزرة للسكان المحليين من المدنيين المسالمين بالمشاركة مع الجيش الصهيوني حيث اغتالوا بدم بارد قرابة الخمسمائة رجل في بيوتهم وفي الشوارع وتركوهم ولم يسمحوا بدفنهم لمدة ستة أيام.. وقد صرح متحدث باسم الجيش بعد ذلك بأن من نفذ هذه المجزرة هم المجندون الدروز في الجيش الصهيوني دون تلقيهم أوامر مباشرة..
Khaled
الجمعة، 04-08-2023 02:53 م
يعطيكم العافية على جهودكم ??
علاء عزت ابوزيد
الجمعة، 04-08-2023 02:17 م
جهد رائع ، بارك الله فيكم، وسدد خطاكم على الخير .