أفكَار

عامان على الانقلاب في تونس.. مستقبل الدولة والديمقراطية والإسلاميين (1من2)

أحمد قعلول: لا أقدر أن سعيد مستعد للتراجع عن سياساته، بل أرى أن مشغله الأساسي اليوم متعلق بمصيره في الانتخابات الرئاسية المتوقعة نهاية سنة 2024.. (الأناضول)
تقترب تونس من إتمام سنتين على الانقلاب الذي قام به قيس سعيد يوم 25 تموز/ يوليو 2021.. وفكك خلال هذه الفترة أغلب مؤسسات الدولة التي بنيت في مرحلة الانتقال الديمقراطي ووضع بديلا عنها مؤسسات ضعيفة وفارغة من السلطة.

وقد انتهى الأمر بالبلاد لحالة عزلة على المستوى الإقليمي والدولي ولحالة تفكك لمؤسسات الدولة زيادة على تفاقم الأزمة الاقتصادية وبلوغها مستويات لم تبلغها في تاريخ تونس الحديث، وهو الأمر الذي ينذر بحالة انهيار شاملة للدولة.

ولا شك أن تفكك مؤسسات الدولة التونسية يمثل خطرا استراتيجيا ليس على المستوى القطري والإقليمي فقط، بل وكذلك على المستوى الدولي وخاصة في منطقة البحر الأبيض المتوسط.

لا أقدر أن سعيد مستعد للتراجع عن سياساته، بل أرى أن مشغله الأساسي اليوم متعلق بمصيره في الانتخابات الرئاسية المتوقعة نهاية سنة 2024 هذا إن لم يلجأ لإلغائها في حال غلب لديه الظن بفشله فيها.

كما أقدر أن سعيد وفي أغلب سياساته محكوم بهواجسه الانتخابية وتوقعاته بما يخص الرأي العام وردود فعله ونسبة صعود أو نزول "شعبيته"، والراجح أن سعيد مثله مثل عبير موسي يتحرك في إطار حملة انتخابية متواصلة، ولذلك فإن توليه مقاليد السلطة لم يجعله يتوقف عن خطابه وسياساته الشعبوية وكذلك استحواذه على مقاليد الحكم من خلال الانقلاب الذي قام به لم يوقفه عن مواصلة نفس النهج في إدارة الشأن العام.

وقد تم الاعلان (بشكل غير رسمي) عن مبادرة للاتحاد العام التونسي للشغل تقضي بالمضي لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية بعد إجراء حوارات عامة وتغييرات مستوجبة للدستور والقانون الانتخابي.

كما أن المراقب يلاحظ أن العديد من الفاعلين السياسيين من محيط سعيد ومن خارجه قد بدأوا عمليا الاستعداد لهذا الاستحقاق الانتخابي.

حراك تختلط فيه المشاريع الفكرية بالمخططات السياسية فضلا عن الطموحات الشخصية، لسياسيين طارئين على المشهد السياسي أصلا، وبدأوا في بناء مجد سياسي على أنقاض نضال أجيال من أجل الديمقراطية والحق في التداول السلمي على السلطة..

في هذا الإطار تتنزل ورقتي هذه المخصصة للشأن التونسي، والذي أرى فيه أن الوضع في البلاد مفتوح على احتمالات ثلاثة أحدها راجح على الآخريين، ولكن بما أن الوضع في المنطقة والعالم محفوف بكثير من الغموض وهو أكثر اتساعا في الحالة التونسية ولذلك فإن عملية الترجيح لا يمكن أن تكون ممكنة بالنظر لحجم الضبابية والغموض والاضطراب.

سيناريو الانهيار المتحكم فيه:

يتمثل هذا السيناريو في انهيار الوضع في البلاد بالنظر للمعطيات التالية:

ـ تعنت سعيد ورفضه المضي في أي مسار عقلاني يضمن الاستقرار وان كان على حساب الديمقراطية.

ـ رفض سعيد لأي إصلاحات في الملف الاقتصادي والمالي للبلاد.

ـ اكتمال دور النخب السياسية من حيث سقفها وأفق عملها وانفتاح الباب عمليا لمواجهة مباشرة بين الدولة والشعب مع غياب وسطاء اجتماعيين او مدنيين او حزبيين بين الدولة والمجتمع وهو ما يفتح الباب فعليا لحالة انهيار وفوضى اجتماعية ربما يرافقها عنف غير منظم.

ـ تفاقم المشاكل المالية للدولة التونسية وتصاعد آثارها الاجتماعية خاصة بالنظر لارتفاع الأسعار وغياب المواد الأساسية وغياب السيولة المالية لدى الدولة وأثر ذلك على قدرات المواطنين.

ـ هذا مع دخول عامل هشاشة اجتماعية إضافية متعلقة بملف الهجرة اكان ذلك بخصوص المهاجرين غير الشرعيين التونسيين الذين يتم تحشيدهم واعادتهم لتونس وكذلك بخصوص المهاجرين من جنوب الصحراء الذين يتحول وجودهم بالتراب التونسي لمشكل اجتماعي وعامل توتر بدأ يؤدي لمظاهر عنف خطيرة وغير مسبوقة.

ـ غموض وحيرة الموقف الدولي بخصوص الملف التونسي وطريقة التعاطي معه وهو ما يفتح باب هشاشة إضافية بخصوص الملف التونسي وغموض مستقبله في غياب أجندة واضحة وتضارب للسياسات من قبل الدول المؤثرة أكان ذلك على المستوى الإقليمي أو الدولي.

ـ دخول أوروبا في دوامة ملف الهجرة غير الشرعية واعتمادها على حالة الضعف الذي تمر بها الدولة التونسية لاتخاذها كمحتشد للمهاجرين غير الشرعيين والتعويل على استعداد سعيد لتقديم كل التنازلات في هذا الملف سعيا وراء تنفيس الأزمة الاقتصادية ومخاطرها الاجتماعية الداهمة، هذا مع وجود اضطراب في المواقف وتناقض مصالح داخل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي حول هذا الملف.

بناء على دراسة حالات سابقة أكان في الوضع التونسي أو في دول أخرى فإن اتساع حالة الهشاشة وبروز التناقضات الداخلية مع غياب القرار كلها عوامل تؤشر على حالة تغيير قادمة. ولذلك فإن كل هذه العوامل تؤشر لحالة انهيار وشيك للوضع في تونس ولا أقدر أن هذا يمكن أن يطول لنهاية الصائفة وذلك أن حجم الأزمة يدفع الدولة لسياسات تعمق وتسارع من مسار التأزيم وليس هناك حلولا لدى السلطة لا حكومة ولا قيادة.

وربما تحمل الأسابيع القادمة عددا من الأحداث التي تدفع للفوضى وللعنف. وليس معلوما في هذا الإطار كيف ستتصرف أجهزة الدولة، ولكن إن أخذنا بفعلها سنة 1987 وسنة 2010 فإن سلوك أجهزتها واضح في نمطيته.

وهو سلوك يأتي عموما في صورة استجابة لأزمة يتجنب بها انهيار الدولة ويلجأ لتجديد بيروقراطيتها بما يفتح لدينامية سياسية كانت في الحالة الأولى عملية تجديد للحزب الحاكم بما يحافظ على بيروقراطية الدولة، بينما كانت الثانية تجديدا جذريا للنخبة السياسية وجاءت حالة سعيد في إطار نفس الآليات حسما في النخبة السياسية وسعيا لتغييرها..  ويشرف مسار سعيد على نهاية وشيكة بسبب حالة الفشل الذريع والمتسارع والذي يهدد لا فقط بسقوط منظومة الحكم بل بتفكك مؤسسات الدولة وبالتالي عجز بيروقراطيتها عن تجديد نفسها أو ترتيب أي حالة انتقال بعدية.

إن نحن أخذنا بغلبة هذه المتغيرات فإنه من المتوقع أن تتكرر نفس المسارات. وهو ما يجعل الأحداث التي تقع في البلاد نوعا من عملية التأزيم والتعفين "المتعمد" للوضع بما يفتح المجال للتخلص من سعيد لفسح المجال لسيناريو ربما يكون أكثر "نجاحا" من سيناريو سعيد ولكن دون السماح للعودة للديناميات السياسية التي تم الانقلاب عليها.

حالات التغيير كلها كانت مرتبطة بقرار دولي يسمح به أو على الأقل لا يعارضه. فانقلاب بن علي على بورقيبة، كان وحسب التحقيقات التي قام بها البرلمان الإيطالي بتنسيق واضح مع الايطاليين مع قرار أمريكي واضح، كما أن دراسة للبنتاغون الأمريكي في بداية الألفين تحدثت عن حالة انهيار متوقع للوضع في تونس بفعل تصاعد الأزمة وتطور وسائل التواصل الاجتماعي وعن دور ما للجيش يجب أن تكون مؤسسته مستعدة للقيام به.
ولذلك فإن تفاقم الأزمة الاجتماعية وما يبدو من  ظاهر لبيروقراطية الدولة (التي لا يشك في كفاءتها الفنية) عن بلوغ حلول مع الشركاء الدوليين وإن كان يفسر أساسا بمركزية السلطة عند قيس سعيد، إلا أنه لا يلغي ان عقلا ما في محيط سيعد هو بصدد فسح المجال للفشل التلقائي دون بذل جهد للإنقاذ والنصح.

وفي نفس الوقت فإن هذا العقل يتحرك بسرعة في اتجاه غلق أي باب للحل السياسي وذلك من خلال:

ـ اعتقال مجموعة خيام التركي وقد أشرفت على تقديم بديل سياسي وتشريعي واقتصادي لمأزق قيس سعيد.

ـ اعتقال قيادة حركة النهضة وخاصة زعيمها ورفض الدعوات الدولية لإطلاق سراحه وبقية المساجين.

ـ التهديد باستهداف واسع لحركة النهضة بما يعيد للذاكرة النهضاوية مأساة التسعينات مع الغلق الفعلي لمقرات الحزب.

ـ حملة تكميم الأفواه بفعل المنشور 54.

ـ عملية إعادة الانتشار داخل أجهزة الدولة.

كل هذه المعطيات تؤشر على ترجيح سيناريو يفتح الباب على عملية تغيير في اتجاه ما. تتحدد صورته بحسب وضوح الفاعلين الأساسيين خاصة من السياسيين والبيروقراطية القريبة منها ويصعب أن تتورط أجهزة الدولة مباشرة في تصدر المشهد وأن يبقى هذا السيناريو احتمالا ممكنا وإن نظريا.

من المهم الانتباه أن حالات التغيير كلها كانت مرتبطة بقرار دولي يسمح به أو على الأقل لا يعارضه. فانقلاب بن علي على بورقيبة، كان وحسب التحقيقات التي قام بها البرلمان الإيطالي بتنسيق واضح مع الايطاليين مع قرار أمريكي واضح، كما أن دراسة للبنتاغون الأمريكي في بداية الألفين تحدثت عن حالة انهيار متوقع للوضع في تونس بفعل تصاعد الأزمة وتطور وسائل التواصل الاجتماعي وعن دور ما للجيش يجب أن تكون مؤسسته مستعدة للقيام به.

والملاحظ أنه وفي كلا المناسبتين فقد كان الموقف الأمريكي متقدما جدا عن الموقف الفرنسي إذ وفي حالة بن علي كانت التقارير الأمريكية قد حسمت موقفها من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة منذ مرضه سنة 1984، وهذا ما جعل الولايات المتحدة تبقى متقدمة عن الموقف الفرنسي الذي غرق في المعادلة الداخلية للصراع على وراثة بورقيبة بين "المزالي" وجماعة القصر، بينما تم العمل على تصعيد بن علي داخل أجهزة الدولة. وفي 2011 غرق الموقف الفرنسي في سياسات الحفاظ على منظومة بن علي ومساندته لوجيستيا خلال أحداث الثورة، بينما كان الموقف الأمريكي متقدما ومستبقا للأحداث وهو ما يفسر ربما عدم تورط المؤسسة العسكرية في قمع الاحتجاجات سنة 2011.

ليس هناك وضوحا بخصوص انقلاب 25\07\2021 حول طبيعة القرار الأمريكي، ولكن من الواضح أن الإدارة الأمريكية كانت تمر بمرحلة انتقال بين إدارة ترامب وإدارة "بايدن"، وبين أن الإدارة الأمريكية قررت مرافقة الانقلاب دون وصفه بالانقلاب، مع الدفاع الواضح عن مطلب العودة للمسار الديمقراطي، والضغط من أجل الحد من تورط الدولة في قمع الحريات مع الضغط من أجل عدم تورط المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية والمدنية.

مقابل ذلك فإن الحد الأدنى الذي يمكن قوله فإن السياسة الفرنسية بقيت مضطربة لحد كبير بخصوص مدى التزامها بالدفاع عن الديمقراطية في تونس.

ليس واضحا بالنسبة لهذه المرحلة ما هي استراتيجيات القوى الكبرى بخصوص الملف التونسي. ولكن من الأكيد ان بيروقراطية هذين الدولتين ستتصرف بحسب معهودها وربما يتكرر نفس السيناريو في هذه المرحلة خاصة بالنظر لارتباك السياسة الفرنسية ليس فقط في تونس، بل في كل المنطقة، مقابل استقرار والاستقلالية العالية التي تتمتع بها أجهزة الدولة عن مركز القرار السياسي وهذا بخلاف وضع وبنية الدولة الفرنسية.

ومهما يكن من أمر فإن أي سيناريو يفترض بالضرورة الذهاب لانتخابات رئاسية في أدنى الحدود بما أن عملية التغيير ستسهدف رأس الدولة بما هي إكساء شرعية على بقائه أو شرعية على بديله ضمن مرحلة انتقالية.

سيناريو الانتخابات:

تبدو خارطة الانتخابات القادمة أكثر تعقيدا من خارطة انتخابات 2019 كما أنها على غير حالها في مرحلة بن علي. وذلك أن الخزان الانتخابي المحسوب على العائلة الدستورية مشتت وهو موضوع تنازع بين شقوق لا تقل عن أربع مجموعات عبرت عن نفسها في 2019 بين مجموعة الدستوري الحر ومجموعة الزبيدي ومجموعة قلب تونس ومجموعة يوسف الشاهد، وهي اليوم لما تعبر بعد بوضوح عن وجوهها إلا أن المعطيات الأولية تؤكد أن العديد من الشخصيات الموجودة داخل السلطة والمعارضة تخطب ود هذا الخزان الانتخابي وفي عمومه فان هذا الخزان يعتمد على خطاب الكراهية تجاه الثورة وخاصة النهضة.

مقابل هذا الخزان الانتخابي المشتت فإن حركة النهضة تعتبر الجهة الأساسية التي تخاطب خزانا انتخابيا رئيسيا ومتضامنا ومستقرا لحد كبير على الأقل في ملف الرئاسيات، إذ ساهم هذا الخزان على الأقل بنسبة 30% من الذين انتخبوا قيس سعيد في 2019 وقد استعادت النهضة أغلب مخزونها الانتخابي بعد الانقلاب ولذلك فإن قاعدتها الانتخابية تبقى عاملا أساسيا في أي استحقاق انتخابي.

نقدر أن جميع المتدخلين مضطرين لوضع الخارطة الانتخابية في الحسبان وبناءا على ذلك فإن الأطراف القريبة من السلطة أو ذات التأثير على دوائرها ستضع سياسات تراعي هذه الحسابات.

ـ بين الذين يعولون أساسا على القاعدة الدستورية
ـ وبين الذين الذين يعولون على القاعدة الإسلامية
ـ وبين من سيسعى لمخاطبة كلا الخزانين الانتخابيين
ـ وبين من سيسعى لخزان ثالث غير منظم وان كان هذا خيارا محدودا ولم يتحرك بفاعلية ترجيحية الا في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية ولم يكن فاعلا في تشريعيات 2019.

سيكون وضع كل جسم انتخابي من حيث وحدة قيادته وطبيعتها وسياساتها محددا في التعويل على قاعدته.

وفي هذه الحالة فإن الجسم الانتخابي الإسلامي ما زال لحد الآن هو الأكثر صلابة مقارنة بغيرها. وإذ وكما أشرنا سابقا تشتت الجسم الانتخابي الدستوري ولم يجتمع الا حول الخطاب الشعبوي الراديكالي لعبير وثم لقيس سعيد، بينما برز جسمان آخران في انتخابات 2019 واحد استقطب منه نبيل القروي وهو في العموم غير بعيد عن الخزان الانتخابي المحافظ كما أن له علاقة بالحالة الشعبوية التي تستقطب منها عبير وهذا خزان طابعه الأساسي اجتماعي بما أنه يمثل حزام الفقر كما أنه محافظ على المستوى القيمي وهو في العموم قريب من السلطة.

إن الجسم الانتخابي الإسلامي ما زال لحد الآن هو الأكثر صلابة مقارنة بغيرها
أما المكون الثاني فهو الجسم الشبابي الذي تمت تعبئته بشكل اصطناعي من خلال الدوائر المغلقة لشبكات التواصل الاجتماعي خلال الدور الأول من رئاسيات 2019 وهذا المكون لا يشارك إلا بنسبة ضعيفة في الاستحقاقات التشريعية، بل يتحرك خارج المنظومة وضدها في العموم.

ليس لهذين المجموعتين (المخزون الاجتماعي والشبابي) ولاءات انتخابية ثابتة ولذلك فهما للاستقطاب من كل المتدخلين بحسب الاستراتيجيات الانتخابية.

الخلاصة هو أن الخزانين التقليديين يمثلان فرسي الرهان الأساسيين في الحملات الانتخابية أي الخزان الدستوري والخزان الإسلامي.

وتتأثر الحياة السياسية بناء على الاستراتيجيات الانتخابية خاصة من قبل قيس سعيد ومحيطه بما أنه يمثل الطرف الماسك بمقاليد الحكم في البلاد والموجه بالتالي لأجهزة الدولة لصالح أجندته في الاستفراد بالحكم والاستبداد به مع اضطراره لإجراء انتخابات ليس له بد منها.

انتقل سعيد بعد انتخابات 2019 لقاعدة رأي عام مناقضة للقاعدة الانتخابية التي أوصلته للرئاسة. إذ أصبح أكثر من سبعين بالمائة من الذين يعبرون عن عزمهم انتخابه في الرئاسيات ينتخبون الدستوري الحر في التشريعيات. وبما أن الخزان الانتخابي النهضاوي قد استعاد جزءا كبيرا من عافيته بعد الانقلاب فإن الاستراتيجية الأقرب من قبل سعيد ومن يحوم في محيطه أو ينافسه على نفس الخزان الانتخابي ستتمثل في استهداف النهضة وخاصة زعيمها ولذلك فإنه من الراجح أن يسعى سعيد ومحيطه إلى استهداف الخزان الانتخابي النهضاوي بالتفكيك، استقطابا للخزان الانتخابي الدستوري.

مشكلة سعيد ستكون إذا في الشخصيات التي ستنافسه على نفس الخزان الانتخابي، وربما يضطره هذا لمحاولة استعادة جزء من مخزونه الانتخابي الذي صعده سنة 2019 على أن هذا يبدو احتمالا ضعيفا إلا أنه يبقى ممكنا وهذا بالنظر لحجم التفكك في المخزون الانتخابي المعادي للنهضة.

على أن هذا يقتضي تغييرا جذريا إما في العلاقة مع النهضة او تغييرا جذريا داخل النهضة، وكلا هذين الاحتمالين بعيدين، وربما تأتي في إطار الاحتمال الثاني سياسة استهداف القيادة التاريخية للنهضة والعمل على فسح المجال أو إبراز خط آخر داخلها وإن على حساب توجهاتها المعلنة والمعتمدة أو بالتوازي معها.

نقدر أن سعيد سيعول أساسا على المخزون الانتخابي الدستوري مع تعويله على حزام الفقر في البلاد، وهو ما يبرر خطابه الشعبوي ورمزية لجوئه لقبر الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة كي يعلن "لاءاته" بخصوص شروط الإصلاح الاقتصادي المقتضاة من صندوق النقد الدولي ثم حديثه عن الاستحقاق الانتخابي.

وبناء على هذه الفرضية فإن استراتيجيته ومحيطه ستعمل على ترهيب الجسم النهضاوي وتفكيك وضعه القيادي ولم لا إحداث انشقاقات داخله وتدجينه مع المحافظة على قياداته وزعاماته الرئيسية داخل السجن  كرهائن يمكن التخلي عنهم إما بعد الانتخابات أو في حال الاطمئنان لمخرجاتها.

ولذلك فإني لا أتوقع أن يستجيب سعيد ومحيطه لنداءات ودعوات إطلاق سراح المساجين السياسيين وعلى رأسهم الأستاذ راشد الغنوشي، ما دام معتقدا أن خروجهم من السجن يؤثر سلبا على حظوظه في الانتخابات.

ومع ذلك لا أتوقع أن يتوسع سعيد في حملته القمعية بالنظر لتعقد الخارطة الانتخابية والطمع في إمكانية الاستقطاب من القاعدة المحافظة النهضاوية ومحيطها.

وباستثناء عمليات سبر الآراء غير الموثوقة في مرحلة غير انتخابية فإنه لا يمكن الوثوق في قدرة سعيد على الفوز رغم تقدمه من الدور الأول كما لا يمكن الوثوق بقدرته على استقطاب أصوات منافسيه على نفس الخزان الانتخابي في الدور الثاني.

كما أن بقاء سعيد سيكون بالضرورة مكلفا عليه وعلى البلاد أي أنه سيكون مضطرا لمزيد الإغراق في التخلي عن السيادة الوطنية ورهن إرادة الدولة التونسية للقوى الخارجية بأجنداتها المتنافسة والمتصارعة، وفي النهاية سيؤول السيناريو للفشل بعد تجفيف مقدرات البلاد ومخزونها الاقتصادي والاجتماعي.

إن استراتيجية سعيّد ومحيطه ستعمل على ترهيب الجسم النهضاوي وتفكيك وضعه القيادي ولم لا إحداث انشقاقات داخله وتدجينه مع المحافظة على قياداته وزعاماته الرئيسية داخل السجن كرهائن يمكن التخلي عنهم إما بعد الانتخابات أو في حال الاطمئنان لمخرجاتها.
على أن سيناريو الانتخابات يقتضي كي يكون ممكنا قيام سعيد أساسا بالعديد من الخطوات، ومنها:

ـ الكف عن المضايقات والملاحقات التي يتعرض لها معارضوه من السياسيين وأصحاب الراي والإعلاميين.

ـ إطلاق سراح كل المساجين السياسيين.

ـ التعبير عن الاستعداد للمضي قدما في الإصلاحات الاقتصادية المستوجبة من اجل ضمان توفر سيولة مالية تسمح بالحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في البلاد.

ـ القبول بتوفير ضمانات كافية لشفافية الانتخابات وديمقراطيتها.

ومقابل ذلك فإنه يمكن للمعارضة أن تغير أجندتها في مقاومة انقلابه لمسار يدخل ضمن برنامج الاستعداد للانتخابات الرئاسية التي يمكن ان تكون في أوانها أو قبل أوانها بحسب ما يمكن الاتفاق عليه.
وذلك مع ضمان شفافية هذه الانتخابات ومراقبتها الدولية.

إن سيناريو الانتخابات يمثل فيصلا بين سعيد ومعارضيه، وهو فرصة له إن انتخبه الشعب أن يخرج من المشهد الانقلابي لمشهد الحاصل على شرعية حقيقية لا تسمح بالقيام في وجهه بحجة الانقلاب على الدستور وعلى الشرعية التي صعدته لسدة السلطة. وهو إن انتصر سيفرض مساره بناء على شرعية حقيقية.

يمكن أن تكون الانتخابات القادمة مناسبة للتنافس بين شرعية دستور سعيد وبين شرعية دستور 2014.

ويسمح للشعب في إطار حر وشفاف لاختيار ما يريد. وهذا سيسمح لسعيد في أدنى السيناريوهات لخروج آمن، بما أنه خرج بنفس الآليات التي جاءت به للسلطة. أو في حالة لو انتصر في انتخابات شفافة فهو سيبقى بناءا على اختيار الشعب له وحسما في خصومته مع المعارضين وهو في كل الحالات سيخرج البلاد من حالة الانقلاب لحالة ديمقراطية وان كان قيس سعيد على راس دولتها، ما دام الشعب قد اختاره.

*قيادي في حركة النهضة ووزير تونسي سابق