قضايا وآراء

لا تعليق على أحكام القضاء

1300x600
من أكثر العبارات المثيرة للجدل ،خاصة في الدول المستبدة  الراسخة في الاستبداد الذي يكون القضاء فيها أحد أدواته ووسائله ،عبارة "لا تعليق على أحكام القضاء" ،والتي تعنى في مضمونها ،أن الحكم القضائي لا يجوز الاعتراض عليه من قبل الموجه ضدهم ،أو الفاصل في خصومة تخصهم ،أو فيما قضى به من نزاع يخص المجتمع بصفة عامة ويتصل به الرأي العام ،سوى بالطريق القانوني الذي حدده القانون مسبقا للاعتراض عليه،كالطعن عليه بالمعارضة أو الاستئناف أو النقض حسب الأحوال  ،بحيث إذا صار الحكم نهائيا وباتا ،بات عنوان الحقيقة ،بل أقوى من الحقيقة ذاتها.
 
وهذا يعنى أن عدم التعليق على أحكام القضاء ،بالمعنى الذي يؤدى إلى إحداث بلبلة في المجتمع تهدد استقراره وتعطل مصالحه  ،سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات ،تجاه الأحكام القضائية المنوط بها تسيير حركة العدالة ،هو من أبجديات الدولة الدستورية القانونية الحديثة ،ولكن هذا مشروطا بأن تكون الدولة دستورية قانونية حديثة ،ومرهونا كذلك بافتراض الثقة مُسبقا فى القضاء ذاته – كمرفق وقضاة معا- حتى يستساغ مطالبة المجتمع باحترام أحكامه.

لأن التعليق على الحكم القضائي يعنى فيما يعنيه التعبير الضمني عن ثقة المجتمع في قضائه العامل ،وهذه الثقة محلها الوجدان والوعي الجمعي للمجتمع ،الذي إن ترسخ فيه توافر الفساد في تركيبة المنظومة القضائية ،يكون تناوله لأحكامه بمثابة الطعن في المنظومة ككل ،خاصة عندما يكون المجتمع على دراية بكيفية إدارة المنظومة القضائية ،منذ تعيين أعضاء النيابة ومعايير اختيارهم ودخولهم إلى السلك القضائي، وحتى خروجهم على المعاش، وإن لم يكن القضاء محلا لتلك الثقة  ،وبالمثل الدولة القائمة ذاتها ،تكون تلك العبارة ،كلمة حق يراد بها الباطل.
 
خاصة عندما يتحول القضاء إلى أداة من أدوات القمع والاستبداد في يد السلطة المستبدة، بدلا من أن يكون الحصن الحصين للمجتمع من توحش السلطة التنفيذية وتغولها على حقوقه، وإن كان في هذه الحالة، التعليق على الحكم القضائي غير ذي جدوى لأن الأساس الذي تقوم عليه الدولة ذاتها ،هو ما يستحق التعليق، وليس الحكم القضائي الذي لا يكون في هذه الحالة إلا كقرار من  القرارات السياسية، أو القرارات الإدارية العادية ،التي تجد طريقها في النفاذ عبر قوة السلاح.

ولهذا فإن هذه العبارة التي تتردد كثيرا في الفضاء الإعلامي خاصة في مصر بعد الانقلاب العسكري الذي أعادها إلى نادي الاستبداد من جديد ، لا تعني سوى تبرير وتمرير قبول الحكم القضائي في أي صورة كانت على الرأي العام ،خاصة إذا كان خاصا بقضية من  قضاياه الكبرى المتصل بها.
.
رغم أن الإعلام الموجه الذي يشهر هذه العبارة في وجه الخصوم السياسيين للسلطة المستبدة ،يتجاهل قاعدة قضائية أخرى، مفادها أن المحكمة لا تُمدح ولا تُذم ،بمعنى أن عدم التعليق على الحكم القضائي لا يعني تناوله بالسلب فقط، بل يشمل تناوله بالإيجاب أيضا ،فكما لا يجوز القول بأن الحكم الصادر في قضية ما باطل أو القضاء ككل ظالم ،لا يجوز أيضا القول بعدالة الحكم القضائي أو أن القضاء شامخ في العدالة ،وبهذا يقع الإعلام الموجه فيما يحذر منه بعدم التعليق على أحكام القضاء!